التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٤١
يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ
٤٢
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ
٤٣

التحرير والتنوير

لا محالة أن جملة { استمع } عطف على جملة { { سَبح بحمد ربك } [ق: 39]، فالأمر بالاستماع مفرع بالفاء التي فرع بها الأمر بالصبر على ما يقولون. فهو لاحق بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون المسموع إلا من نوع ما فيه عناية به وعقوبة لمكذبيه.

وابتداء الكلام بــ { استمع } يفيد توثيقاً إلى ما يرد بعده على كل احتمال. والأمر بالاستماع حقيقته: الأمر بالإنصات والإصْغاء.

وللمفسرين ثلاث طرق في محمل { استمع }، فالذي نحاه الجمهور حمل الاستماع على حقيقته وإذ كان المذكور عقب فعل السمع لا يصلح لأن يكون مسموعاً لأن اليوم ليس مما يُسمع تعين تقدير مفعول لــ{ استمع } يدل عليه الكلام الذي بعده فيقدر: استمع نداءَ المنادي، أو استمع خبرهم، أو استمع الصيحة يوم ينادي المنادي. ولك أن تجعل فعل { استمع } منزلاً منزلة اللازم، أي كُن سامِعاً ويتوجه على تفسيره هذا أن يكون معنى الأمر بالاستماع تخييلاً لصيحة ذلك اليوم في صورة الحاصل بحيث يؤمر المخاطب بالإصغاء إليها في الحال كقول مالك بن الرَّيّب:

دَعاني الهوى من أهل ودي وجيرتيبذي الطَّبَسَيْن فالتفَتُّ وَرائيا

ونحَا ابنُ عطية حمل { استمع } على المجاز، أي انتظر. قال: «لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء لأن كل مَن فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبّين صحة ما قلته» اهــ. ولم أر مَن سَبَقه إلى هذا المعنى ومثله في «تفسير الفخر» وفي «تفسير النسفي». ولعلهما اطلعا عليه لأنهما متأخران عن ابن عطية وهما وإن كانا مشرقيّين فإن الكتب تُنقل بين الأقطار. وللزمخشري طريقة أخرى فقال «يعني: واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبَر به كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل "يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك" . ولم أرَ من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق.

واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون { يوم يناد المنادي } مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناءُ على الفتح، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابنِ مالك ولا ريبة في أنه الأصوب. ومنه قوله تعالى: { { قال الله هذَا يوم ينفع الصادقين صدقهم } [المائدة: 119] في قراءة نافع بفتح { يومَ }.

وقوله: { يوم يسمعون الصيحة } بدل مطابق من { يوم يناد المنادي } وقوله: { ذلك يوم الخروج } خبر المبتدأ.

ولك أن تجعل { يوم يناد المنادي } مفعولاً فيه لــ { استمع } وإعراب ما بعده ظاهر.

ولك أن تجعل { يوم يناد المنادي } ظرفاً في موقع الخبر المقدم وتجعل المبتدأ قوله: { ذلك يوم الخروج } ويكون تقدير النظم: واستمعْ ذلكَ يومُ الخروج يوم ينادي المنادي الخ، ويكون اسمُ الإشارة لمجرد التنبيه، أو راجعاً إلى يوم ينادي المنادي، فإنه متقدم عليه في اللفظ وإن كان خبراً عنه في المعنى واسم الإشارة يكتفي بالتقدم اللفظي بل يكتفي بمجرد الخطور في الذهن. وفي «تفسير النسَفِي» أن يعقوب أي الحضرمي أحد أصحاب القراءات العشر المتواترة وقف على قوله { واستمع }.

وتعريف { المنادي } تعريف الجنس، أي يوم ينادي منادٍ، أي من الملائكة وهو الملك الذي ينفخ النفخة الثانية فتتكوَّن الأجساد وتحل فيها أرواح الناس للحشر قال تعالى: { { ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [الزمر: 68].

وتنوين { مكان قريب } للنوعية إذ لا يتعلق الغرض بتعيينه، ووصفه بــ { قريب } للإشارة إلى سرعة حضور المنادين، وهو الذي فسرته جملة { يوم يسمعون الصيحة بالحق } لأن المعروف أن النداء من مكان قريب لا يخفى على السامعين بخلاف النداء من كان بعيد.

و { بالحق } بمعنى: بالصدق وهو هنا الحشر، وصف { بالحق } إبطالاً لزعم المشركين أنه اختلاق.

والخروج: مغادرة الدار أو البلدِ، وأطلق الخروج على التجمع في المحشر لأن الحَيَّ إذا نَزَحُوا عن أرضهم قيل: خرجوا، يقال: خرجوا بقَضِّهم وقضيضهم.

واسم الإشارة جيء به لتهويل المشار إليه وهو { يوم يسمعون الصيحة بالحق } فأريد كمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الخبر العظيم. ومقتضى الظاهر أن يقال: هو يوم الخروج.

و { يوم الخروج } علم بالغلبة على يوم البعث، أي الخروج من الأرض.

وجملة { إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير } تذييل، أي هذا الإحياء بعد أن أمَتْنَاهُم هو من شؤوننا بأنا نحييهم ونحيـي غيرهم ونميتهم ونميت غيرهم.

والمقصود هو قوله: { ونميت }، وأما قوله: { نحيي } فإنه لاستيفاء معنى تصرف الله في الخلق.

وتقديم { إلينا } في { إلينا المصير } للاهتمام. والتعريف في { المصير } إما تعريف الجنس، أي كل شيء صائر إلى ما قدرناه له وأكبر ذلك هو ناموس الفناء المكتوب على جميع الأحياء وإما تعريف العهد، أي المصير المتحدث عنه، وهو الموت لأن المصير بعد الموت إلى حكم الله.

وعندي أن هذه الآيات من قوله: { واستمع يوم يناد المنادي } إلى قوله { المصير } مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقَون إثره حتفهم، وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بترقب يومٍ يناديهم فيه منادٍ إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صَرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأنّ عِير قريش (وفيها أبو سفيان) قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالُكم مع أبي سفيان قد عَرض لها محمد وأصحابه. فتجهز الناس سراعاً وخرجوا إلى بدر. فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة.

والخروج: خروجهم لبدر، وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصالُ سادتهم عقبه. وتكون جملة { إنا نحن نحيي ونميت } وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قَدّر إسلامه فيما بعدُ فهو يحييه إلى يوم أجله.

وكتب في المصحف { المناد } بدون ياء. وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بياء في الوصل وبدونها في الوقف، وذلك جارٍ على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرّف باللام معاملة المنكّر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرّف معاملة المنكر. وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتباراً بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالَف قياسُ اللفظ لأجله.