التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

التحرير والتنوير

هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير { { الخراصون } [الذاريات: 10] وأن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { { قتل الخراصون } [الذاريات: 10] لأن جملة { قتل الخراصون } أفادت تعجيباً من سوء عقولهم وأحْوالهم فهو مثار سؤال في نفس السامع يتطلب البيان، فأجيب بأنهم يسألون عن يوم الدين سؤال متهكمين، يعنون أنه لا وقوع ليوم الدين كقوله تعالى: { { عمّ يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون } [النبأ: 1 ـــ 3].

و{ أيّان يوم الدين } مقول قول محذوف دلّ عليه { يسألون } لأن في فعل السؤال معنى القول. فتقدير الكلام: يقولون: أيان يوم الدين. ولك أن تجعل جملة { أيان يوم الدين } بدلاً من جملة { يسألون } لتفصيل إجماله وهو من نوع البدل المطابق. و{ أيّان } اسم استفهام عن زمان فعل وهو في محل نصب مبنيّ على الفتح، أي متى يوم الدين، ويوم الدين زمان فالسؤال عن زمانه آيل إلى السؤال باعتبار وقوعه، فالتقدير: أيان وقوع يوم الدين، أو حلوله، كما تقول: متى يوم رمَضان أي متى ثبوته لأن أسماء الزمان حقها أن تقع ظروفاً للأحداث لا للأزمنة.

وجملة { يوم هم على النار يفتنون } جواب لسؤالهم جرى على الأسلوب الحكيم من تلقي السائل بغير ما يتطلب إذ هم حين قالوا: أيّان يوم الدين، أرادوا التهكم والإحالة فتُلقِّي كلامُهم بغير مرادهم لأن في الجواب ما يشفي وقع تهكمهم على طريقة قوله تعالى: { { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج } [البقرة: 189]. والمعنى: يوم الدين يقع يوم تُصْلَوْن النار ويقال لكم: ذوقوا فتنتكم.

وانتصب { يوم هم على النار يفتنون } على الظرفية وهو خبر عن مبتدأ محذوف دل عليه السؤال عنه بقولهم: أيام يوم الدين. والتقدير: يومُ الدين يومَ هم على النار يفتنون.

والفَتْن: التعذيب والتحريق، أي يوم هم يعذبون على نار جهنم وأصل الفَتْن الاختيار. وشاع إطلاقه على معان منها إذابة الذهب على النار (في البُوتَقة) لاختيار ما فيه من معدن غيرِ ذهب، ولا يذاب إلا بحرارة نار شديدة فهو هنا كناية عن الإحراق الشديد.

وجملة { ذوقوا فتنتكم } مقول قول محذوف دل عليه الخطاب، أي يقال لهم حينئذٍ، أو مقولاً لهم ذوقوا فتنتكم، أي عذابكم. والأمر في قوله: { ذوقوا } مستعمل في التنكيل.

والذوق: مستعار للإحساس القوي لأن اللسان أشد الأعضاء إحساساً.

وإضافة فتنة إلى ضمير المخاطبين يومئذ من إضافة المصدر إلى مفعوله. وفي الإضافة دلالة على اختصاصها لهم لأنهم استحقوها بكفرهم، ويجوز أن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى فاعله. والمعنى: ذوقوا جزاء فتنتكم. قال ابن عباس: أي تكذيبكم. ويقوم من هذا الوجه أن يجعل الكلام موجَّهاً بتذكير المخاطبين في ذلك اليوم ما كانوا يفتنون به المؤمنين من التعذيب مثل ما فتنوا بلالاً وخَبَّاباً وعَماراً وشميسة وغيرهم، أي هذا جزاء فتنتكم. وجعل المذوق فتنتهم إظهاراً لكونه جزاء عن فتنتهم المؤمنين ليزدادوا ندامة قال تعالى موعداً إياهم { { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } [البروج: 10].

وإطلاق اسم العمل على جزائه وارد في القرآن كثيراً كقوله تعالى: { { وتجعلون رزقكم أنكم تُكذّبون } [الواقعة: 82] أي تجعلون جزاء رزق الله إياكم أنكم تُكذّبون وحدانيته.

والإشارة في قوله: { هذا الذي كنتم به تستعجلون } إلى الشيء الحاضر نصب أعينهم، وهكذا الشأن في مثله تذكير اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: { { إنها بقرة لا فارض ولا بِكْر عَوَانٌ بين ذلك } في سورة البقرة (68).

ومعنى { كنتم به تستعجلون } كنتم تطلبون تعجيله فالسين والتاء للطلب، أي كنتم في الدنيا تسألون تعجيله وهو طلب يريدون به أن ذلك محال غير واقع. وأقوالهم في هذا كثيرة حكاها القرآن كقوله: { { ويقولون متى هذ الوعد إن كنتم صادقين } [الملك: 25].

والجملة استئناف في مقام التوبيخ وتعديد المجارم، كما يقال للمجرم: فعلت كذا، وهي من مقول القول.