التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
٥
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ
٦
-الذاريات

التحرير والتنوير

القَسَم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالةٍ على الهدى والصلاح، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها.

والمُقْسَم بها الصفات تقتضي موصفاتها، فآل إلى القَسَم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة. وفي ذلك إيجاز دقيق، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيراً لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن.

وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء، كقول ابن زيَّابة:

يا لهف زَيابَةَ للحارث الصَــــابح فالغانم فالآيب

ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة كقول امرىء القيس:

بسِقط اللِوى بين الدَّخول فَحَوْمَل فتوضح فالمقراة.......

وقول لبيد:

بمشارق الجبلين أو بمُحجر فتَضَّمنتْها فَردة فرُخَامها
فصَوائق إن أيمنت.......... .............. البيـــت

ويكثر ذلك في عطف البقاع المتجاورة، وقد تقدم ذلك في سورة الصافات.

واختلف أيمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها. وأشهر ما رُوي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن { الذاريات } الرياح لأنها تذرو التراب، و{ الحاملات وِقْراً }: السحاب، و{ الجاريات }: السفن، و{ المُقسِّمات أمراً } الملائكة، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها.

وتأويله أن كل معطوفٍ عليه يُسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي، فالرياح تذكِّر بالسحاب، وحمل السحاب وِقْرَ الماء يذكر بحمل السفن، والكل يذكر بالملائكة. ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفاً للرياح قاله في «الكشاف» ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء.

فالأحسن أن يُحمل الذرو على نشر قطع السحاب نَشراً يشبه الذرو. وحقيقة الذرو رَمي أشياء مجتمعة تُرمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحَب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحاباً كاملاً فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى: { { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء } [الروم: 48]. والذرو وإن كان من صفة الرياح فإنّ كون المذرو سحاباً يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نَشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب.

ونُصب { ذَرْواً } على المفعول المطلق لإرادة تفخيمه بالتنوين، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى المفعول، أي المَذْرو، ويكون نصبه على المفعول به.

و{ الحاملات وقراً } هي الرياح حين تجمع السحاب وقد ثَقُل بالماء، شبه جمعها إياه بالحَمل لأن شأن الشيء الثقيل أن يحمله الحامل، وهذا في معنى قوله تعالى: { { ويَجْعَلُه كِسَفاً فترى الودقَ يخرج من خلاله } [الروم: 48] الآية. وقوله: { { وينشىء السحاب الثِّقال } [الرعد: 12] وقوله: { { ألم تر أن الله يُزْجي سحاباً ثم يُؤَلّف بينه ثم يجعله رُكاماً فترى الودق يخرج من خلاله } [النور: 43].

والوِقر بكسر الواو: الشيء الثقيل.

ويجوز أن تكون الحاملات الأسحبة التي ملئت ببخار الماء الذي يصير مطراً، عطفت بالفاء على الذاريات بمعنى الرياح لأنها ناشئة عنها فكأنها هي.

و{ الجاريات يُسْراً }: الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلاً بماء المطر، فالتقدير: فالجاري بذلك الوقر يُسراً.

ومعنى اليسر: اللِين والهُون، أي الجاريات جرياً ليّناً هيّناً شأن السير بالثقل، كما قال الأعشى:

كأنّ مِشيتها من بيت جارتها مَشيُ السحابة لا رَيثٌ ولا عَجَل

فــ{ يُسراً } وصف لمصدر محذوف نصب على النيابة عن المفعول المطلق.

و{ المقسمات أمراً } الرياح التي تنتهي بالسحاب إلى الموضع الذي يبلغ عنده نزول ما في السحاب من الماء أو هي السحب التي تُنزل ما فيها من المطر على مواضع مختلفة.

وإسناد التقسيم إليها على المعنيين مجاز بالمشابهة. وروي عن الحسن { المقسمات } السحب بقَسم الله بها أرزاق العباد» اهــ. يريد قوله تعالى: { { ونزلنا من السماء ماء مباركاً } في سورة ق (9) إلى قوله: { { رِزقاً للعباد } في سورة ق (11).

ومن رشاقة هذا التفسير أن فيه مناسبة بين المُقْسَم به والمقسم عليه وهو قوله: { إنما توعدون لصادِق وإن الدين لواقع } فإن أحوال الرياح المذكورة هنا مبدؤها: نفخ، فتكوين، فإحياء، وكذلك البعث مبدؤه: نفخ في الصور، فالتئام أجساد الناس التي كانت معدومة أو متفرقة، فبثُّ الأرواح فيها فإذا هم قيام ينظرون. وقد يكون قوله تعالى: { أمراً } إشارة إلى ما يقابله في المثال من أسباب الحياة وهو الروح لقوله: { { قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85].

و(مَا) من قوله: { إنما توعدون } موصولة، أي إن الذي توعدونه لصادق. والخطاب في { تُوعدون } للمشركين كما هو مقتضى التأكيد بالقسم وكما يقتضيه تعقيبه بقوله: { { إنكم لفي قول مختلف } [الذاريات: 8].

فيتعين أن يكون { توعدون } مشتقاً من الوعيد الذي ماضيه (أوعد)، وهو يبنى للمجهول فأصل { توعدون } تُؤَوْعَدون بهمزة مفتوحة بعد تاء المضارعة وواوٍ بعد الهمزة هي عين فعل (أوعد) وبفتح العين لأجل البناء المجهول فحذفت الهمزة على ما هو المطّرد من حذف همزة أفْعَل في المضارع مثل تُكرمون، وسكنت الواو سكوناً مَيتاً لأجل وقوع الضمة قبلها بعد أن كان سكونها حَيّاً فصار { تُوعَدون } ووزنه تافعلون.

والذي أوُعِدوه عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مثل الجوع في سني القحط السبع الذي هو دَعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله: "اللهمّ اجعلها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف" وهو الذي أشار إليه قوله تعالى: { { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } الآية في سورة الدخان (10، 11). ومثل عذاب السيف والأسر يوم بدر الذي توعدهم الله به في قوله: { { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [الدخان: 16]. ويجوز أن يكون توعدون من الوعد، أي الإخبار بشيء يقع في المستقبل مثل قوله: { { إن وعد الله حق } [لقمان: 33] فوزنه تُفْعَلُون. والمراد بالوعد الوعد بالبعث.

ووصف { لصادق } مجاز عقلي إذ الصادق هو المُوعد به على نحو { { فهو في عيشة راضية } [الجاثية: 21].

والدين: الجزاء. والمراد إثبات البعث الذي أنكروه.

ومعنى { لواقع } واقع في المستقبل بقرينة جعله مرتباً في الذكر على ما يوعدون وإنما يكون حصول الموعود به في الزمن المستقبل وفي ذكر الجزاء زيادة على الكناية به عن إثبات البعث تعريض بالوعيد على إنكار البعث.

وكتب في المصاحف { إنما } متصلةً وهو على غير قياس الرسم المصطلح عليه من بعد لأنهما كلمتان لم تَصيرا كلمة واحدة، بخلاف { إنما } التي هي للقصر. ولم يكن الرسم في زمن كتابة المصاحف في أيام الخليفة عثمان قد بلغ تمام ضبطه.