التفاسير

< >
عرض

فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣٥
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٦
وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٣٧
-الذاريات

التحرير والتنوير

هذه الجملة ليست من حكاية كلام الملائكة بل هي تذييل لقصة محاورة الملائكة مع إبراهيم، والفاء في { فأخرجنا } فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر هو ما ذُكر في سورة هود من مجيء الملائكة إلى لوط وما حدث بينه وبين قومه، فالتقدير: فحَلُّوا بقرية لوط فأمرناهم بإخراج من كان فيها من المؤمنين فأخرجوهم. وضمير «أخرجنا» ضمير عظمة الجلالة.

وإسناد الإِخراج إلى الله لأنه أمر به الملائكة أن يبلغوه لوطاً، ولأن الله يسّر إخراج المؤمنين ونجاتهم إذْ أخّر نزول الحجارة إلى أن خرج المؤمنون وهم لوط وأهله إلا امرأته.

وعبر عنهم بــــ { المؤمنين } للإِشارة إلى أن إيمانهم هو سبب نجاتهم، أي إيمانهم بلوط. والتعبير عنه بـــــ { المسلمين } لأنهم آل نبيء وإيمان الأنبياء إِسلام قال تعالى: { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن اللَّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة: 132].

وضمير { فيها } عائد إلى القرية ولم يتقدم لها ذكر لكونها معلومة من آيات أخرى كقوله: { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } [الفرقان: 40].

وتفريع { فما وجدنا } تفريع خبر على خبر، وفعل { وجدنا } معنى علمنا لأن (وجد) من أخوات (ظن) فمفعوله الأول قوله: { من المسلمين } و (من) مزيدة لتأكيد النفي وقوله: { فيها } في محل المفعول الثاني.

وإنما قال: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } دون أن يقول: فأخرجنا لوطاً وأهل بيته قصداً للتنويه بشأن الإِيمان والإِسلام، أي أن الله نجّاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف { المؤمنين } في تلك القرية، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين.

والمؤمن: هو المصدق بما يجب التصديق به. والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإِيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإِشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما.

والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالاة أهل القرية على فسادهم، قال تعالى: { { ضرب اللَّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } [التحريم: 10] الآية، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإِيمان والإِسلام معاً.

والوجدان في قوله: { فما وجدنا } مراد به تعلّق علم الله تعالى بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي، ووجدان الشيء إدراكه وتحصيله.

ومعنى { وتركنا فيها آية }: أن القرية بقيت خراباً لم تعمر، فكان ما فيها من آثار الخراب آية للذين يخافون عذاب الله، قال تعالى في سورة الحجر (76) { { وإنها لبسبيل مقيم } أو يعود الضمير إلى ما يؤخذ من مجموع قوله: { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } [الذاريات: 32] على تأويل الكلام بالقصة، أي تركنا في قصتهم.

والترك حقيقته: مفارقة شخص شيئاً حصل معه في مكان ففارق ذلك المكان وأبقى منه ما كان معه، كقول عنترة:

فتركتُه جَزر السباع ينُشْنَه

ويطلق على التسبب في إيجاد حالة تطول، كقول النابغة:

فلا تتركَنّي بالوعيد كأننيإلى الناس مطليُّ به القارُ أجرب

بتشبيه إبقاء تلك الحالة فيه بالشيء المتروك في مكان. ووجه الشبه عدم التغير.

والترك في الآية: كناية عن إبقاء الشيء في موضع دون مفارقة التارك، أو هو مجاز مرسل في ذلك فيكون نظير ما في بيت النابغة.

و{ الذين يخافون العذاب } هم المؤمنون بالبعث والجزاء من أهل الإِسلام وأهل الكتاب دون المشركين فإنهم لما لم ينتفعوا بدلالة مواقع الاستئصال على أسباب ذلك الاستئصال نُزلت دلالة آيتِه بالنسبة إليهم منزلةَ ما ليس بآية كما قال تعالى: { { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } [ق: 45].

والمعنى: أن الذين يخافون اتعظوا بآية قوم لوط فاجتنبوا مثلَ أسباب إهلاكهم، وأن الذين أشركوا لا يتعظون فيوشك أن ينزل عليهم عذاب أليم.