التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
-الذاريات

التحرير والتنوير

هذا قَسَم أيضاً لتحقيق اضطراب أقوالهم في الطعن في الدين وهو كالتذييل للذي قبله، لأن ما قبله خاص بإثبات الجزاء. وهذا يعم إبطال أقوالهم الضالّة فالقسم لتأكيد المقسم عليه لأنهم غير شاعرين بحالهم المقسمِ على وقوعه، ومُتَهالكون على الاستزادة منه، فهم منكرون لما في أقوالهم من اختلاف واضطراب جاهلون به جهلاً مركَّبا والجهل المركب إنكار للعلم الصحيح. والقول في القسم بــ { السماء } كالقول في القسم بــ { { الذاريات } [الذاريات: 1].

ومناسبة هذا القسم للمقسم عليه في وصف السماء بأنها ذات حُبُك، أي طرائق لأن المقسم عليه: إن قولهم مختلف طرائق قِدداً ولذلك وصف المقسم به ليكون إيماء إلى نوع جواب القسم.

والحُبك: بضمتين جمع حِباك ككِتاب وكُتب ومِثال ومُثُل، أو جمع حبيكة مثل طَريقة وطُرق، وهي مشتقة من الحَبْك بفتح فسكون وهو إجادة النسج وإتقانُ الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحُبك السماء نُجوْمُها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. وروي عن الحسن وسعيد بن جبير وقيل الحبك: طرائق المجرّة التي تبدو ليلاً في قبة الجو.

وقيل: طرائق السحاب. وفسر الحبك بإتقان الخلق. روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وهذا يقتضي أنهم جعلوا الحبك مصدراً أو اسم مصدر، ولعله من النادر. وإجراء هذا الوصف على السماء إدماج أدمج به الاستدلال على قدرة الله تعالى مع الامتنان بحسن المرأى.

واعلم أن رواية رويت عن الحسن البصري أنه قرأ { الحِبُك } بكسر الحاء وضم الباء وهي غير جارية على لغة من لغات العرب. وجعل بعض أيمة اللغة الحِبُك شاذاً فالظن أن راويها أخطأ لأن وزن فِعُل بكسر الفاء وضم العين وزن مهمل في لغة العرب كلّهم لشدة ثقل الانتقال من الكسر إلى الضم مما سلمت منه اللغة العربية. ووجهت هذه القراءة بأنها من تداخل اللغات وهو توجيه ضعيف لأن إعمال تداخل اللغتين إنما يقبل إذا لم يفض إلى زنة مهجورة لأنها إذا هجرت بالأصالة فهجرها في التداخل أجدر ووجهها أبو حيان باتباع حركة الحاء لحركة تاء { ذاتِ } وهو أضعف من توجيه تداخل اللغتين فلا جدوى في التكلف.

والقول المختلف: المتناقض الذي يخالف بعضه بعضاً فيقتضي بعضه إبطال بعض الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة فقالوا القرآنُ: سِحْرٌ وشعر، وقالوا { { أساطير الأولين اكتتبها } [الفرقان: 5]، وقالوا { { إنْ هذا إلا اختلاق } [ص: 7]، وقالوا { { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [الأنفال: 31] وقالوا: مرة { { في آذاننا وَقْر ومن بيننا وبينك حجاب } [فصلت: 5] وغير ذلك، وقالوا: وحي الشياطين.

وقالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالاً: شاعر، ساحر، مجنون، كاهن، يعلمه بشر، بعد أن كانوا يلقبونه الأمين. وقالوا في أصول شركهم بتعدد الآلهة مع اعترافهم بأن الله خالق كل شيء وقالوا: { { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله } [الزمر: 3]، { { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } [الأعراف: 28].

و(في) للظرفية المجازية وهي شدة الملابسة الشبيهة بملابسة الظرف للمظروف مثل { { ويُمدهم في طغيانهم يعمهون } [البقرة: 15].

والمقصود بقوله: { إنكم لفي قول مختلف } الكناية عن لازم الاختلاف وهو التردد في الاعتقاد، ويلزمُه بطلان قولهم وذلك مصبّ التأكيد بالقسم وحرف (إن) واللام.

و{ يؤفك }: يصرف. والأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء: الصرف. وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن، قاله مجاهد كما في «اللسان»، وهو ظاهر كلام أيمة اللغة والفراء وشمّر وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن.

وجملة { يؤفك عنه من أفك } يجوز أن تكون في محل صفة ثانية لــ{ قولٍ مختلف }، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: { { وإن الدين لواقع } [الذاريات: 6]، فتكون جملة { والسماء ذاتِ الحبك إنكم لفي قول مختلف } معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبيَّن عنها. ثم إن لفظ { قول } يقتضي شيئاً مقولاً في شأنه فإذ لم يذكر بعد { قول } ما يدل على مقول صلَح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم.

فلما جاء ضميرُ غيبة بعد لفظ { قول } احتمل أن يعود الضمير إلى { قولٍ } لأنه مذكور، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير { عنه } عائد إلى { قول مختلف } وأن معنى { يؤفك عنه } يصرف بسببه، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون (عن) للتعليل كقوله تعالى: { { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } [هود: 53] وقوله تعالى: { { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه } [التوبة: 114]، وقيل ضمير { عنه } عائد إلى { { ما توعدون } [الذاريات: 22] أو عائد إلى { { الدين } [الذاريات: 6]، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك. وعن الحسن وقتادة: أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين، أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما، وحرف (عن) للمجاوزة.

وعلى كل فالمراد بقوله { من أفك } المشركون المصروفون عن التصديق. والمراد بالذي فعل الأفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى: { { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلِبُون } [فصلت: 26].

وإنما حذف فاعل { يؤفك } وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز.

وقد حمَّلهم الله بهاتين الجملتين تبعةَ أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى: { { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [العنكبوت: 13].