التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
-النجم

التحرير والتنوير

{ أَفَرَءَيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَٰوةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أنتُمْ وءابَاؤُكُم مَّا أنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان }.

لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي: اللاتُ، والعزَّى، ومناةُ التي هي أحجار مقرّها الأرض لا تملك تصرفاً ولا يعرج بها إلى رفعة. فكان هذا التضاد جامعاً خيالياً يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته.

فانتقل الكلام من غرض إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم موحىً إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام، ومناط الإِبطال قوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان }.

فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة { { أفَتُمَارُونَه على ما يَرى } [النجم: 12] المفرعة على جملة { ما كذَبَ الفؤادُ ما رأى } [النجم: 11].

والروية في { أفرأيتم } يجوز أن تكون بَصَرية تتعدّى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولاً ثانياً ويكون الاستفهام تقريرياً تهكمياً، أي كيف ترون اللات والعزّى ومناةَ بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا تهكم بهم وإبطال لإِلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان. وأكثر استعمال «أرأيت» أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضيّ الدين.

وتكون جملة { ألكم الذكر } الخ استئنافاً وارتقاء في الرد أو بَدلَ اشتمال من جملة { أفرأيتم اللات والعزى } لأن مضمونها مما تشتمل عليه مزاعمهم، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب «الكشاف» وسياق الآيات يقتضيه.

ويجوز أن تكون الرؤية علمية، أي أزعمتم اللات والعزى ومناةَ، فحذف المفعول الثاني اختصاراً لدلالة قوله: { ألكم الذكر وله الأنثى } عليه، والتقدير: أزعمتموهن بنات الله، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور، وتكون جملة { ألكم الذكر } الخ بياناً للإِنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور.

وجعل صاحب «الكشْف» قوله: { ألكم الذكر وله الأنثى } سادًّا مسدَّ المفعول الثاني لفعل «أرأيتم».

وأيضاً لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حظي بها النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعة قدرة الله تعالى وعظيم ملكوته مما يسجِّل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناماً مثل اللات والعزى ومناة. فسادَ زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإِلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإِلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مُخيّلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق، ففرّع { أفرأيتم اللات والعزى } الخ فيكون الاستفهام تقريرياً إنكاريًّا، والرؤية علميةَ والمفعول الثاني هو قوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها }.

وتكون جملة { ألكم الذكر وله الأنثى } الخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإِنكار، أي وزعمتوهن بنات لله أو وزعمتم الملائكة بنات لله.

وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعها مقصود في هذا المقام.

ولك أن تجعل فعل «أرأيتم» (على اعتبار الرؤية علمية) معلّقاً عن العمل لوقوع { إنْ } النافية بعده في قوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها } وتجعل جملة { ألكم الذكر وله الأنثى } إلى قوله: { ضيزى } اعتراضاً.

واللاتُ: صنم كان لثقيف بالطائف، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه، وله شهرة عند قريش، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء. وقال الفخر: «كان على صورة إنسان، وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى» كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان.

والألف واللام في أول { اللات } زائدتان. و (ال) الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله: لاَتْ، بمعنى معبود، فلما أرادوا جعله علماً على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في { الله } فإن أصله إله. ويوقف عليه بسكون تائه في الفصحى.

وقرأ الجمهور: { اللات } بتخفيف المثناة الفوقية. وقرأه رويس عن يعقوب بتشديد التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيراً من العرب يقولون: أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلتّ السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبداً.

و{ العُزى }: فُعلَي من العِزّ: اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر: «كان على صورة نبات» ولعله يعني: أن الصخرة فيها صورة شجر، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان جمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أُحد يخاطب المسلمين «لنا العُزى ولا عزى لكم».

وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذا شَرعوا في عمل قالوا: بسم اللات باسم العزى.

وأما { مناة } فعَلَم مرتجل، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بهاء تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء، ويكون ممنوعاً من الصرف، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفاً لأن تاء لات مثل باء باب، وأصله: مَنَواة بالتحريك وقد يمد فيقال: منآة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعاً لخط المصحف، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذوَ قديد بين مكة والمدينة، وكان الأوس والخزرج يطوفون حَوله في الحج عوضاً عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعَوا بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي لأنهم كانوا يسعون بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } كما تقدم عن حديث عائشة في الموطأ في سورة البقرة (158).

وقرأ الجمهور { ومناة } بتاء بعد الألف. وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين. والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعاً لرسم المصحف فتكون التاء حرفاً من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء { اللات } ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس.

ووصفها بالثالثة لأنها ثالثة في الذّكر وهو صفة كاشفة، ووصفها بالأخرى أيضاً صفة كاشفة لأن كونها ثالثة في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع، فالحاصل من الصفتين تأكيدٌ ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك، فاللات في أعْلى تهامة بالطائف، والعُزَّى في وسطها بنخلةَ بين مكة والطائف، ومناة بالمُشلل بين مكة والمدينة فهي ثالثة البقاع.

وقال ابن عطية: كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ولذلك قال تعالى: { الثالثة الأخرى } فأكدها بهاتين الصفتين.

والأحسن أن قوله: { الثالثة الأخرى } جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا: «وفلانٌ هو الآخَر» ووجهه هنا أن عُبَّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه.

وجملة { ألكم الذَّكر وله الأنثى } ارتقاء في الإِبطال والتهكم والتسفيه كما تقدم، وهي مجاراة لاعتقادهم أن تلك الأصنام الثلاثة بنات الله وأن الملائكة بنات الله، أي أجعلتم لله البنات خاصة وأنتم تعلمون أن لكم أولاداً ذكوراً وإناثاً وأنكم تفضلون الذكور وتكرهون الإِناث وقد خصصتم الله بالإِناث دون الذكور والله أولَى بالفضل والكمالِ لو كنتم تعلمون فكان في هذا زيادة تشنيع لكفرهم إذ كان كفراً وسخافة عقل.

وكون العزَّى ومناة عندهم انثتين ظاهر من صيغة اسميهما، وأما اللات فبقطع النظر عن اعتبار التاء في الاسم علامة تأنيث أو أصلاً من الكلمة فهم كانوا يتوهمون اللات أنثى، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لعُروة بن مسعود الثقفي يوم الحُديبية «امصُصْ أو اعضُضْ بَظْرَ اللات».

وتقديم المجرورين في { ألكم الذكر وله الأنثى } للاهتمام بالاختصاص الذي أفادته اللام اهتماماً في مقام التهكم والتسفيه على أن في تقديم { وله الأنثى } «إفادة الاختصاص» أي دون الذكر.

وجملة { تلك إذا قسمة ضيزى } تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في { ألكم الذكر وله الأنثى }، أي قد جرتُم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإِنكار.

والإِشارة بــــ { تلك } إلى المذكور باعتبار الإِخبار عنه بلفظ { قسمة } فإنه مؤنث اللفظ.

و{ إذن } حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإِنكاري، أي يترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضِيزى، أي قسمتم قسمة جائرة.

و{ ضيزى }: وزنه فُعْلى بضم الفاء من ضازة حَقَّه، إذا نقصه، وأصل عين ضاز همزة، يقال: ضَأَزه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا: ضَازهُ بالألف. ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي: يجوز ضَاز يضِيز، وضَاز يضُوز. وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تُلحقه بالواو أو الياء، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا: ضَازه حقه ضَيْزاً ولم يقولوا ضَوْزاً لأن الضوز لوك التمر في الفم، فأرادوا التفرقة بين المصدرين، وهذا من محاسن الاستعمال وعن المؤرّج السَّدُوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا: ضيزى. كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى.

ووزن { ضيزى }: فُعْلى اسم تفضيل (مثل كُبْرى وطُوبى) أي شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حرّكوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واواً فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج. وهذا كما فعلوا في بيض جمع أبيض ولو اعتبروه تفضيلاً من ضاز يضوز لقالوا: ضُوزى ولكنهم أهملوه.

وقيل: وزن { ضِيزى } فِعلى بكسر الفاء على أنه اسم مثل دِفلى وشِعْرى، ويبعِّد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر. قال سيبويه: لا يوجد فِعلَى بكسر الفاء في الصفات، أو على أنه مصدر مثل ذِكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية.

وقرأ الجمهور { ضِيزى } بياء ساكنة بعد الضاد. وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفاً. وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإِنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته.

وجملة { إن هي إلا أسماء سميتموها } استئناف يكر بالإِبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإِظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم مُتَوَهم إنكار نسبتهم البنات لله إنه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً أو أن مصب الإِنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإِنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات. والضمير { هي } عائد إلى اللات والعزى ومناةَ. وَمَا صدق الضمير الذات والحقيقة، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماءُ لا مسمّياتٍ لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى: { { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [يوسف: 40].

والقصر إضافي، أي هي أسماء لا حقائق عاقِلة متصرفة كما تزعمون، وليس القصر حقيقياً لأنّ لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة.

وجملة { ما أنزل الله بها من سلطان } تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة.

وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحداً من رسله بأن للأصنام أرواحاً أو ملائكة، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين.

والسلطان: الحجة، وإنزالها من الله: الإِخبار بها، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها، فنفي إنزال الحجة بها من باب:

على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا منار له فيهتدى به.

وعبر عن الإِخبار الموحَى به بفعل (أنزل) لأنه إخبار يَرد من العالم العلوي فشُبّه بإدلاء جسم من أعلى إلى أسفل.

وكذلك عُبّر عن إقامة دلائل الوجود بالإِنزال لأن النظر الفكري من خلق الله فشبه بالإِنزال كقوله: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [الفتح: 4]، فاستعمال { ما أنزل الله بها من سلطان } من استعمال اللفظ في معنييه المجازيَيْن. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: { { ويعبدون من دون اللَّه ما لم يُنزِّل به سلطاناً وما ليس لهم به علم } في سورة الحج (71)، وتقدم في سورة يوسف (40) قوله: { { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان } .

وأكد نفي إنزال السلطان بحرف (من) الزائدة لتوكيد نفي الجنس.

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى }.

هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات، وهو استئناف بياني فضمير { يتبعون } عائد إلى الذين كان الخطاب موجهاً إليهم.

أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيما يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأمانيَّ محبوبة لهم يعيشون في غرورها.

وجيء بالمضارع في { يتبعون } للدلالة على أنهم سيسمرُّون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل بدلالة لحن الخطاب أو فحواه.

وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقاً بالمغيبات كما في قوله تعالى: { { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } في سورة البقرة (46)، وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى: { { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } في سورة الأنعام (116)، ومنه قول النبي: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وهو المراد هنا بقرينة عطف وما تهوى الأنفس } عليه كما عطف { وإن هم إلا يخرصون } على نظيره في سورة الأنعام، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالباً كما قال تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم } [الحجرات: 12].

وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حُسن أو ذم على حسب الأدلة، ولذلك استنبط علماؤنا أن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة.

والمراد بـــ { ما تهوى الأنفس }: ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني، دون الأدلة فإن كان الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حُبه إلا قبولاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمساجد" وقال: "وجعلت قُرّة عيني في الصلاة" .

فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم.

ثم إن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاماً ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها، فمنه محمود ومنه مذموم، كما قال تعالى: { إن بعض الظن إثم } وقيل: الحزم سوء الظن بالناس.

والتعريف في { الأنفس } عوض عن المضاف إليه، أي وما تهواه أنفسهم و{ ما } موصولة.

وعطف { وما تهوى الأنفس } على الظن عطف العلة على المعلول، أي الظن الذي يبعثهم على إتباعه أنه موافق لهداهم وإلفهم.

وجملة { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } حالية مقررة للتعجيب من حالهم، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أرسل إليهم رسولاً بالهدى.

ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمراراً لا يظن مثله بعاقل.

والتعبير عن الجلالة بعنوان { ربهم } لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطاً بالعصيان والتمرد على خالقهم.

والتعريف في { الهدى } للدلالة على معنى الكمال، أي الهدى الواضح.