التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ
٢٧
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً
٢٨
-النجم

التحرير والتنوير

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنثَىٰ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ }.

اعتراض واستطراد لمناسبة ذكر الملائكة وتبعاً لما ذكر آنفاً من جعل المشركين اللاّت والعُزى ومناة بناتٍ لله بقوله: { { أفرأيتم اللات والعزى } [النجم: 19] إلى قوله: { { ألكم الذكر وله الأنثى } [النجم: 21] ثُنِّيَ إليهم عنان الرد والإِبطال لزعمهم أن الملائكة بنات الله جمعاً بين ردّ باطلين متشابهين، وكان مقتضى الظاهر أن يعبر عن المردود عليهم بضمير الغيبة تبعاً لقوله: { { إن يتبعون إلا الظن } [النجم: 28]، فعدل عن الإِضمار إلى الإِظهار بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التوبيخ لهم والتحقير لعقائدهم إذ كفروا بالآخرة وقد تواتر إثباتها على ألسنة الرسل وعند أهل الأديان المجاورين لهم من اليهود والنصارى والصابئة، فالموصولية هنا مستعملة في التحقير والتهكم نظير حكاية الله عنهم: { { وقالوا يا أيها الذي نزِّل عليه الذكر إنك لمجنون } [الحجر: 6] إلا أن التهكم المحكي هنالك تهكم المبطل بالمحق لأنهم لا يعتقدون وقوع الصلة، وأما التهكم هنا فهو تهكم المحق بالمبطل لأن مضمون الصلة ثابت لهم.

والتسمية مطلقة هنا على التوصيف لأن الاسم قد يطلق على اللفظ الدال على المعنى وقد يطلق على المدلول المسمى ذاتاً كان أو معنى كقول لبيد:

إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما

أي السُلام عليكما، وقوله تعالى: { { سَبِّح اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] وقوله تعالى: { عيناً فيها تسمى سلسبيلاً } [الإنسان: 18] أي توصف بهذا الوصف في حسن مآبها، وقوله تعالى: { هل تعلم له سَمِيّاً } [مريم: 65]، أي ليس لله مثيل. وقد مرّ بيانه مستوفى عند تفسير { بسم اللَّه الرحمٰن الرحيم } في أول الفاتحة (1).

والمعنى: أنهم يزعمون الملائكة إناثاً وذلك توصيف قال تعالى: { { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمٰن إناثاً } [الزخرف: 19]، وكانوا يقولون الملائكة بنات الله من سروات الجن قال تعالى: { { وقالوا اتخذ الرحمٰن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون } [الأنبياء: 26] وقال: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [الصافات: 158].

والتعريف في { الأنثى } تعريف الجنس الذي هو في معنى المتعدد والذي دعا إلى هذا النظم مراعاةُ الفواصل ليقع لفظ { الأنثى } فاصلة كما وقع لفظ { الأولى } ولفظ { يرضَى } ولفظ { شيئاً }.

وجملة { وما لهم به من علم } حال من ضمير { يسمون }، أي يثبتون للملائكة صفات الإِناث في حال انتفاء علم منهم بذلك وإنما هو تخيل وتوهم إذ العلم لا يكون إلا عن دليل لهم فنفي العلم مراد به نفيه ونفي الدليل على طريقة الكناية.

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئًا }.

موقع هذه الجملة ذو شعب: فإن فيها بياناً لجملة { وما لهم به من علم } وعوداً إلى جملة { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس }، وتأكيداً لمضمونها وتوطئة لتفريع { فأعرض عن مَّن تولى عن ذكرنا } [النجم: 29].

واستعير الاتّباع للأخذ بالشيء واعتقاد مقتضاه أي ما يأخذون في ذلك إلا بدليل الظن المخطىء.

وأطلق الظن على الاعتقاد المخطىء كما هو غالب إطلاقه مع قرينة قوله عقبه { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } وتقدم نظيره آنفاً.

وأظهر لفظ { الظن } دون ضميره لتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال.

ونفي الإِغناء معناه نفي الإِفادة، أي لا يفيد شيئاً من الحق فحرف { مِن } بيان وهو مقدم على المبينَّ أعني شيئاً.

و{ شيئاً } منصوب على المفعول به لــــ { يغني }.

والمعنى: أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم (المعرف بأنه تصور المعلوم على ما هو عليه) والظن لا يفيد ذلك الإِدراك بذاته فلو صادف الحق فذلك على وجه الصدفة والاتفاق، وخاصة الظن المخطىء كما هنا.