التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
-النجم

التحرير والتنوير

هذه الآية وإن كانت مستقلة بإفادة أن الله خالق الأزواج من الإِنسان خلقاً بديعاً من نطفة فيصير إلى خصائص نوعه وحسبك بنوع الإِنسان تفكيراً أو مقدرة وعملاً، وذلك ما لا يجهله المخاطبون فما كان ذَكره إلا تمهيداً وتوطئة لقوله: { وأن عليه النشاة الأخرى } [النجم: 47] على نحو قوله تعالى: { كما بدأنا أول خلق نعيده } [الأنبياء: 104] وباعتبار استقلالها بالدلالة على عجيب تكوين نسل الإِنسان، عُطفت عليها جملة { وأن عليه النشأة الأخرى } [النجم: 47] وإلا لكان مقتضى الظاهر أن يقال: إنَّ عليه النشأة الأخرى بدون عطف وبكسر همزة (إنّ).

ومناسبة الانتقال إلى هذه الجملة أن فيها كيفية ابتداء الحياة.

والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من خصوص الإِنسان لأن سياق الكلام للاعتبار ببديع صنع الله وذلك أشد اتفاقاً في خلقة الإِنسان، ولأن اعتبار الناس بما في أحوال أنفسهم أقرب وأمكن ولأن بعض الأزواج من الذكور والإِناث لا يتخلق من نطفة بل من بَيْض وغيره.

ولعل وجه ذكر الزوجين والبدل منه { الذكر والأنثى } دون أن يقول: وأنه خلقه، أي الإِنسان من نطفة، كما قال: { فلينظر الإنسان مِمّ خلق خُلِق من ماء دافق } [الطارق: 5، 6] الآية أمران:

أحدهما: إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكل إنسان زوجه كما قال تعالى: { { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها } [الروم: 21] الآية.

الثاني: الإِشارة إلى أن لكلا الزوجين حظاً من النطفة التي منها يخلق الإِنسان فكانت للذكر نطفة وللمرأة نطفة كما ورد في الحديث الصحيح أنه "إذا سبق ماء الرجل أشبه المولود أباه وإن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمه" ، وبهذا يظهر أن لكل من الذكر والأنثى نطفة وإن كان المتعارف عند الناس قبل القرآن أن النطفة هي ماء الرجل إلا أن القرآن يخاطب الناس بما يفهمون ويشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبرون. وحسبك ما وقع بيانه بالحديث المذكور آنفاً.

والنطفة: فُعلة مشتقة من: نطفَ الماءُ، إذا قطر، فالنطفة ماء قليل وسمي ما منه النسل نطفة بمعنى منطوف، أي مصبوب فماء الرجل مصبوب، وماء المرأة أيضاً مصبوب فإن ماء المرأة يخرج مع بويضة دقيقة تتسرب مع دم الحيض وتستقر في كيس دقيق فإذا باشر الذكر الأنثى انحدرت تلك البيضة من الأنثى واختلطت مع ماء الذكر في قرارة الرحم.

و{ مِن } في قوله: { من نطفة } ابتدائية فإن خَلق الإِنسان آتٍ وناشىءٌ بواسطة النطفة، فإذا تكونت النطفة وأُمنيت ابتدأ خلق الإِنسان.

و{ تمنى } تُدْفق وفسروه بمعنى تقذف أيضاً.

وقيل إن { تُمنى } بمعنى تُراق، وجعلوا تسمية الوادي الذي بقرب مكة منى لأنه تراق به دماء البُدْن من الهدايا. ولم يذكر أهل اللغة في معاني مني أو أمنى أن منها الإِراقة. وهذا من مشكلات اللغة.

ثم إن { تمنى } يحتمل أنه مضارع أَمنى بهمزة التعدية وسقطت في المضارع فَوَزْنُهُ تُأَفْعَل، ويحتمل أنه مضارع مَنى مثل رَمَى فوزنه: تُفْعَل.

وبني فعل { تمنى } إلى المجهول لأن النطفة تدفعها قوة طبيعية في الجسم خفية فكان فاعل الإِمناء مجهولاً لعدم ظهوره.

وعن الأخفش { تمنى } تقدّر، يقال: منى الماني، أي قَدَّر المقدر. والمعنى: إذا قُدر لها، أي قدر لها أن تكون مخلَّقة كقوله تعالى: { { مخلقة وغير مخلقة } [الحج: 5].

والتقييد بـــــ { إذا تمنى } لما في اسم الزمان من الإِيذان بسرعة الخَلق عند دفق النطفة في رحم المرأة فإنه عند التقاء النطفتين يبتدىء تخلق النسل فهذا إشارة خفية إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة حاصلة في الرحم فإذا أُمنيت عليها نطفة الذكر أخذت في التخلق إذا لم يعقها عائق.

ثم لما في فعل { تمنى } من الإِشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر لأن الصب يقتضي مصبوباً عليه فيشير إلى أن التخلق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى، فعند اختلاط الماءين يحصل تخلق النسل فهذا سر التقييد بقوله: { إذا تمنى }.

وفي الجمع بين الذكر والأنثى محسِّن الطباق لما بين الذكر والأنثى من شبه التضاد.

ولم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللتين قبلها لعدم الداعي إلى القصر إذ لا ينازع أحد في أن الله خالق الخلق وموقع جملة { وأنه خلق الزوجين } إلى آخرها كموقع جملة { { وأن سعيه سوف يرى } [النجم: 40].