التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٨
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
١٩
تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
٢٠
-القمر

التحرير والتنوير

موقع هذه الجملة كموقع جملة { { كذبت قبلهم قوم نوح } [القمر: 9] فكان مقتضى الظاهر أن تعطف عليها، وإنما فصلت عنها ليكون في الكلام تكرير التوبيخ والتهديد والنعي عليهم عقب قوله: { { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر } [القمر: 4، 5]. ومقام التوبيخ والنعي يقتضي التكرير.

والحكم على عاد بالتكذيب عموم عرفي بناء على أن معظمهم كذبوه وما آمن به إلا نفر قليل قال تعالى: { { ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا } [هود: 58].

وفرع على التذكير بتكذيب عاد قوله: { فكيف كان عذابي ونذر } قبل أن يذكر في الكلام ما يشعر بأن الله عذبهم فضلاً عن وصف عذابهم.

فالاستفهام مستعمل في التشويق للخبر الوارد بعده وهو مجاز مرسل لأن الاستفهام يستلزم طلب الجواب والجواب يتوقف على صفة العذاب وهي لَمّا تذكر فيحصل الشوق إلى معرفتها وهو أيضاً مكنى به عن تهويل ذلك العذاب.

وفي هذا الاستفهام إجمال لحال العذاب وهو إجمال يزيد التشويق إلى ما يبينه بعده من قوله: { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } الآية، ونظيره قوله تعالى: { عمّ يتساءلون } [النبأ: 1] ثم قوله: { { عن النبأ العظيم } [النبأ: 2] الآية.

وعطف { ونذر } على { عذابي } بتقدير مضاف دل عليه المقام، والتقدير: وعاقبة نذري، أي إنذاراتي لهم، أي كيف كان تحقيق الوعيد الذي أنذرهم.

ونُذر: جمع نذير بالمعنى المصدري كما تقدم في أوائل السورة وقد علمت بما ذكرنا أن جملة «فكيف كان عذابي ونذري» هذه ليست تكريراً لنظيرها السابق في خبر قوم نوح، ولا اللاحق في آخر قصة عاد للاختلاف الذي علمته بين مُفادها ومفاد مماثلتها وإن اتحدت ألفاظهما.

والبليغ يتفطن للتغاير بينهما فيصرفه عن توهم أن تكون هذه تكريراً فإنه لما لم يسبق وصف عذاب عاد لم يستقم أن يكون قوله: { فكيف كان عذابي } تعجيباً من حالة عذابهم.

وقوله: { ونذر } موعظة من تحقق وعيد الله إياهم، وقد أشار الفخر إلى هذا وقفينا عليه ببسط وتوجيه. وأصل السؤال عن تكرير هذه الجملة أثناء قصة عاد هنا أورده في كتاب «درة التنزيل وغرة التأويل» المنسوب إلى الفخر وإلى الراغب إلا أن كلام الفخر في «التفسير» أجدر بالتعويل مما في «درة التنزيل».

وجملة { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } الخ بيان للإجمال الذي في قوله: { فكيف كان عذابي ونذر }. وهو في صورة جواب للاستفهام الصوري. وكلتا الجملتين يفيد تعريضاً بتهديد المشركين بعذاب على تكذيبهم.

وجملة البيان إنما اتصف حال العذاب دون حال الإِنذار، أو حال رسولهم وهو اكتفاء لأن التكذيب يتضمن مجيء نذير إليهم وفي مفعول { كذبت } المحذوف إشعار برسولهم الذي كذبوه وبعث الرسول وتكذيبهم إياه بتضمن الإِنذار لأنهم لما كذبوه حق عليه إنذارهم.

وتعدية إرسال الريح إلى ضميرهم هي كإسناد التكذيب إليهم بناء على الغالب وقد أنجى الله هوداً والذين معه كما علمت آنفاً أو هو عائد إلى المكذبين بقرينة قوله: { كذبت عاد }.

والصرصر: الشديدة القوية يكون لها صوت، وتقدم في سورة فصّلت.

وأريد بــــ { يوم نحس } أول أيام الريح التي أرسلت على عاد إذ كانت سبعة أيام إلا يوماً كما في قوله تعالى: { { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات } في سورة فصّلت (16) وقوله: { { سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } في سورة الحاقة (7).

والنحْس: سوء الحال.

وإضافة { يوم } إلى { نحس } من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه كقولهم يوم تحلاق اللمم، ويوم فتح مكة. وإنما يضاف اليوم إلى النحس باعتبار المنحوس، فهو يوم نحس للمعذبين يوم نصر للمؤمنين ومصائب قوم عند قوم فوائد.. وليس في الأيام يوم يوصف بنحس أو بسعد لأن كل يوم تحدث فيه نحوس لقوم وسعود لآخرين، وما يروى من أخبار في تعيين بعض أيام السنة للنحس هو من أغلاط القصاصين فلا يلقي المسلم الحق إليها سمعه.

واشتهر بين كثير من المسلمين التشاؤم بيوم الأربعاء. وأصل ذلك انجرّ لهم من عقائد مجوس الفرس، ويسمون الأربعاء التي في آخر الشهر «الأربعاء التي لا تدور»، أي لا تعود، أرادوا بهذا الوصف ضبط معنى كونها آخر الشهر لئلا يظن أنه جميع النصف الأخير منه وإلاّ فأيّة مناسبة بين عدم الدوران وبين الشؤم، وما من يوم إلاّ وهو يقع في الأسبوع الأخير من الشهر ولا يدور في ذلك الشهر.

ومن شعر بعض المولدين من الخراسانيين:

لقاؤك للمبكِّر فَألُ سوءووجهك أربعاءُ لا تدور

وانظر ما تقدم في سورة فصّلت.

و{ مستمر }: صفة { نحس }، أي نحس دائم عليهم فعُلِم من الاستمرار أنه أبادهم إذ لو نجوا لما كان النحس مستمراً. وليس { مستمر } صفة لــــ{ يوم } إذ لا معنى لوصفه بالاستمرار.

والكلام في اشتقاق مستمر تقدم آنفاً عند قوله تعالى: { { ويقولوا سحر مستمر } [القمر: 2].

ويجوز أن يكون مشتقاً من مرّ الشيء قاصراً، إذا كان مُرّاً، والمرارة مستعارة للكراهية والنفرة فهو وصف كاشف لأن النحس مكروه.

والنزع: الإِزالة بعُنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلاً به، ومنه نزع الثياب.

والأعجاز جمع عَجُز: وهو أسفل الشيء، وشاع إطلاق العَجُز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض.

وأطلقت الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض.

وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحاتّ ورقها فلا تبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازاً.

و{ منقعر }: اسم فاعل انقعر مطاوع قَعره، أي بلغ قَعْره بالحفر يقال: قَعَرَ البئرَ إذا انتهى إلى عمقها، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعُود النخل إذا طال مكثه مطروحاً.

ومنقعر: وصف النخل، روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافاً لما في قوله تعالى: { كأنهم أعجاز نخل خاوية } [الحاقة: 7] وقوله: { { والنخل ذات الأكمام } [الرحمٰن: 11].

قال القرطبي: «قال أبو بكر ابن الأنباري سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة من جملتها، قيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: { { ولسليمان الريح عاصفة } [الأنبياء: 81] و { جاءتها ريح عاصف } [يونس: 22] وقوله: { { أعجاز نخل خاوية } [الحاقة: 7] و{ أعجاز نخل منقعر }؟ فقال كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً» اهــــ.

وجملة { كأنهم أعجاز نخل منقعر } في موضع الحال من { الناس } ووجه الوصف بــــ { منقعر } الإِشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعاً تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم وأفئدتهم فصاروا جثثاً فُرغا. وهذا تفظيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم.