التفاسير

< >
عرض

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
-الرحمن

التحرير والتنوير

هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتُقل إليه بمناسبة اشتمال ما سَبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإِلهية، ومستحق الإِفراد بالعبادة، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتُقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءَهم من الجن المسوِّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم.

وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة يوسف (98).

والفراغ للشيء: الخلوُ عما يشغل عنه، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء، شبّه حال المقبل على عمل دون عملٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر.

وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك (أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم) وصالح للاستعمال في الوعيد، كقول جرير:

أَلاَنَ وقد فرغت إلى نَميرفهذا حين كنتُ لها عذاباً

والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة، لأن بعده { { يعرف المجرمون بسيماهم } [الرحمٰن: 41]، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية.

و{ الثقلان }: تثنية ثَقَل، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن.

وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض، فهو كالثقل على الدابة، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل. وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق. وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة، ثم استعمله أهل الإسلام، قال ذو الرمة:

وميَّة أحسن الثقلين وَجهاوسَالِفَةً وأحسنُهُ قَذالاً

أراد وأحسن الثقلين، وجعل الضمير له مفرداً. وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه.

وقرأ الجمهور { سَنَفْرُغُ } بالنون. وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات.

وكُتب { أيُّه } في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف. وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف. وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعاً لضم الياء التي قبلها وهذا من الإِتباع.