التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
-الواقعة

التحرير والتنوير

افتتاح السورة بالظرف المتضمنِ الشرط، افتتاح بديع لأنه يسترعي الألباب لترقب ما بعد هذا الشرط الزماني مع ما في الاسم المسند إليه من التهويل بتوقع حدث عظيم يحدث.

و{ إذا } ظرف زمان وهو متعلق بالكون المقدر في قوله: { { في جنات النعيم } [الواقعة: 12] الخ وقوله: { { في سدر مخضود } [الواقعة: 28] الخ وقوله: { { في سموم وحميم } [الواقعة: 42] الخ. وضمّن { إذا } معنى الشرط.

وجملة { ليس لوقعتها كاذبة } استئناف بياني ناشىء عن قوله: { إذا وقعت الواقعة } إلخ وهو اعتراض بين جملة { إذا وقعت الواقعة } وبين جملة { { فأصحاب الميمنة } [الواقعة: 8] الخ.

والجواب قوله: { { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة } [الواقعة: 8، 9]، فيفيد جواباً للشرط ويفيد تفصيل جملة { { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [الواقعة: 7]، وتكون الفاء مستعملة في معنيين: ربطِ الجواب، والتفريع، وتكون جملة { ليس لوقعتها كاذبة } وما بعده اعتراضاً.

والواقعة أصلها: الحادثة التي وقعت، أي حصلت، يقال: وقع أمر، أي حصل كما يقال: صِدْق الخبرِ مطابقتُه للواقع، أي كون المعنى المفهوم منه موافقاً لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى، ومن ذلك حادثة الحرب يقال: واقعة ذي قار، وواقعة القادسية.

فراعوا في تأنيثها معنى الحادثة أو الكائنة أو الساعة، وهو تأنيث كثير في اللغة جار على ألسنة العرب لا يكونون راعوا فيه إلا معنى الحادثة أو الساعة أو نحو ذلك، وقريب منه قولهم: دارت عليه الدائرة، قال تعالى: { { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } [المائدة: 52] وقال: { { عليهم دائرةُ السَّوْء } [التوبة: 98].

والمراد بالواقعة هنا القيامة فجعل هذا الوصف علماً لها بالغلبة في اصطلاح القرآن قال تعالى: { فيومئذٍ وقعت الواقعة } [الحاقة: 15] كما سميت الصاخّة والطامّة والآزفة، أي الساعة الواقعة. وبهذا الاعتبار صار في قوله: { إذا وقعت الواقعة } محسن التجنيس.

و{ الواقعة }: الموصوفةُ بالوقوع، وهو الحدوث.

و{ كاذبة } يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ. وتقديره هنا نفس، أي تنتفي كل نفس كاذبة، فيجوز أن يكون من كَذَب اللازم إذا قال خلاف ما في نفس الأمر وذلك أن منكري القيامة يقولون: لا تقع القيامة فيكذبون في ذلك فإذا وقعت آمنت النفوس كلها بوقوعها فلم تبق نفس تكذب، أي في شأنها أو في الإِخبار عنها. وذلك التقدير كله مما يدل عليه المقام.

ويجوز أن يكون من كذَب المتعدي مثل الذي في قولهم كذبتْ فلاناً نفسه، أي حدثتْه نفسه، أيْ رَأيه بحديث كذب وذلك أن اعتقاد المنكر للبعث اعتقاد سوَّله له عقله القاصر فكأنَّ نفسه حدثته حديثاً كذَبته به، ويقولون: كذبتْ فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا أقْدم عليه فأخفق كأنَّ نفسه لما شجعته على اقتحامه قد قالت له: إنك تطيقه فتعرَّضْ له ولا تبال به فإنك مُذَلِّلُه فإذا تبين له عجزه فكأنَّ نفسه أخبرته بما لا يكون فقد كذبته، كما يقال: كذبته عينه إذا تخيّل مرئياً ولم يكن.

والمعنى: إذا وقعت القيامة تحقق منكروها ذلك فأقلعوا عن اعتقادهم أنها لا تقع وعلموا أنهم ضلّوا في استدلالهم وهذا وعيد بتحذير المنكرين للقيامة من خزي الخيبة وسفاهة الرأي بين أهل الحشر.

وإطلاق وصف الكذب في جميع هذا استعارة بتشبيه السبب للفعل غير المثمر بالمخبر بحديث كذب أو تشبيه التسبب بالقول قال أبو علي الفارسي: الكذب ضرب من القول فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو قول أبي النجم:

قد قالت الأنساع للبطن الحق

جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق نحو:

بأَنْ كذَبَ القراطف والقروف

واللام في { لوقعتها } لام التوقيت نحو { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [الإسراء: 78] وقوله تعالى: { فطلقوهن لعدتهن } [الطلاق: 1]. وقولهم: كتبتُه لكذا من شهر كذا، وهي بمعنى (عند) وأصلها لام الاختصاص شاع استعمالها في اختصاص الموقَّت بوقته كقوله تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا } [الأعراف: 143]. وهو توسع في معنى الاختصاص بحيث تنوسي أصل المعنى. وفي الحديث "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال: الصلاة لوقتها" . وهذا الاستعمال غير الاستعمال الذي في قوله تعالى: { { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [الغاشية: 6].