التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً
٣٥
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً
٣٦
عُرُباً أَتْرَاباً
٣٧
لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٣٨
-الواقعة

التحرير والتنوير

لما جرى ذكر الفُرش وهي مما يعد للاتكاء والاضطجاع وقت الراحة في المنزل يخطر بالبال بادىء ذي بدء مصاحبة الحُور العين معهم في تلك الفرش فيتشوف إلى وصفهن، فكانت جملة: { إنا أنشأناهن إنشاءً } بياناً لأن الخاطر بمنزلة السؤال عن صفات الرفيقات.

فضمير المؤنث من { أنشأناهن } عائد إلى غير مذكور في الكلام ولكنه ملحوظ في الأفهام كقول أبي تمام في طالع قصيدة:

هُنّ عوادي يوسفٍ وصواحبه

ومنه قوله تعالى: { { حتى توارت بالحجاب } [ص: 32]. وهذا أحسن وجه في تفسير الآية، فيكون لفظ { { فرش } [الواقعة: 34] في الآية مستعملاً في معنييه ويكون { { مرفوعة } [الواقعة: 34] مستعملاً في حقيقته ومجازه، أي في الرفع الحسي والرفع المعنوي.

والإِنشاء: الخَلق والإِيجاد فيشمل إعادة ما كان موجوداً وعُدم، فقد سمّى الله الإِعادة إنشاء في قوله تعالى: { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } [العنكبوت: 20] فيدخل نساء المؤمنين اللاءِ كُنّ في الدنيا أزواجاً لمن صاروا إلى الجنة ويشمل إيجادَ نساء أُنُفاً يُخلقن في الجنة لنعيم أهلها.

وقوله: { فجعلناهن أبكاراً } شامل للصنفين.

والعُرُب: جمع عَروب بفتح العين، ويقال: عَرِبه بفتح فكسر فيجمع على عَرِبات كذلك، وهو اسم خاص بالمرأة. وقد اختلفت أقوال أهل اللغة في تفسيره. وأحسن ما يجمعها أن العَروب: المرأة المتحببة إلى الرجل، أو التي لها كيفية المتحببة، وإن لم تقصد التحبّب، بأن تكثر الضحك بمرأى الرجل أو المزاحَ أو اللهو أو الخضوع في القول أو اللثغ في الكلام بدون علة أو التغزل في الرجل والمساهلة في مجالسته والتدلل وإظهار معاكسة أميال الرجل لعِباً لا جِدًّا وإظهار أذاه كذلك كالمغاضبة من غير غصب بل للتورك على الرجل، قال نبيه بن الحجاج:

تلك عريسي غضبى تريد زياليأَلَبيْـنٍ أردتِ أم لدلال

الشاهد في قوله: أم لدلال، قال تعالى: { { فلا تَخْضَعْن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً } [الأحزاب: 32]، وقال: { ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يُخفِين من زينتهن } [النور: 31]. وإنما فسروها بالمتحببة لأنهم لما رأوا هاته الأعمال تجلب محبة الرجل للمرأة ظنوا أن المرأة تفعلها لاكتساب محبة الرجل. ولذلك فسر بعضهم: العَروب بأنها المغتلمة، وإنما تلك حالة من أحوال بعض العروب. وعن عكرمة العروب: الملِقة.

والعروب: اسم لهذه المعاني مجتمعة أو مفترقة أجرَوْه مجرى الأسماء الدالة على الأوصاف دون المشتقة من الأفعال فلذلك لم يذكروا له فعلاً ولا مصدراً وهو في الأصل مأخوذ من الإِعراب والتعريب وهو التكلم بالكلام الفحش.

والعِرابة: بكسر العين: اسم من التعريب وفعله: عَرَّبت وأعربتْ، فهو مما يسند إلى ضمير المرأة غالباً. كأنهم اعتبروه إفصاحاً عما شأنه أن لا يفصح عنه ثم تنوسي هذا الأخذ فعومل العَروب معاملة الأسماء غير المشتقة، ويقال: عَرِبَة. مثل عروب. وجمع العَروب عُرُب وجمع عَرِبة عَرِبات.

ويقال للعروب بلغة أهل مكة العَرِبة والشَّكِلَةُ. ويقال لها بلغة أهل المدينة: الغَنجَة. وبلغة العراق: الشّكِلة، أي ذات الشَّكَل بفتح الكاف وهو الدلال والتعرُّبُ.

والأَتراب: جمع تِرْب بكسر المثناة الفوقية وسكون الراء وهي المرأة التي ساوى سنها سنّ من تضاف هي إليه من النساء، وقد قيل: إن الترب خاص بالمرأة، وأما المساوي في السن من الرجال فيقال له: قرن ولدة.

فالمعنى: أنهن جُعلن في سن متساوية لا تفاوت بينهن، أي هن في سن الشباب المستوي فتكون محاسنهن غير متفاوتة في جميع جهات الحُسن، وعلى هذا فنساء الجنة هن الموصوفات بأنهن «أتراب» بعضهن لبعض.

وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفُ { عرْبا } بسكون الراء سكون تخفيف وهو ملتزم في لغة تميم في هذا اللفظ.

واللام في { لأصحاب اليمين } يتنازعها { أنشأناهن } و{ جعلناهن } لإِفادة توكيد الاعتناء بأصحاب اليمين المستفاد من المقام من قوله: { { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } [الواقعة: 27] الآية.

واعلم أن ما أعطي لأصحاب اليمين ليس مخالفاً لأنواع ما أعطي للسابقين ولا أن ما أعطي للسابقين مخالف لما أعطي أصحاب اليمين فإن الظل والماء المسكوب وكون أزواجهم عُرباً أتراباً لم يذكر مثله للسابقين وهو ثابت لهم لا محالة إذ لا يَقْصرون عن أصحاب اليمين، وكذلك ما ذكر للسابقين من الولدان وأكوابِهم وأباريقهم ولحم الطير وكون أزواجهم حوراً عيناً وأنهم لا يسمعون إلا قيلاً سلاماً سلاماً، لم يذكر مثله لأصحاب اليمين مع أن لأهل الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقد ذكر في آيات كثيرة أنهم أعطوا أشياء لم يذكر إعطاؤها لهم في هذه الآية مثل قوله: { وتحيتهم فيها سلام } [يونس: 10]، فليس المقصود توزيع النعيم ولا قصره ولكن المقصود تعداده والتشويق إليه مع أنه قد علم أن السابقين أعلى مقاماً من أصحاب اليمين بمقتضى السياق. وقد أشار إلى تفاوت المقامين أنه ذكر في نعيم السابقين أنه جزاء بما كانوا يعملون للوجه الذي بيناه فيها ولم يذكر مثله في نعيم أصحاب اليمين وجُماع الغرض من ذلك التنويه بكلا الفريقين.