التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ
٥١
لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ
٥٢
فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ
٥٣
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ
٥٤
فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ
٥٥
-الواقعة

التحرير والتنوير

هذا من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم.

و{ ثم } للترتيب الرتبي فإن في التصريح بتفصيل جزائهم في ذلك اليوم ما هو أعظم وقعاً في النفوس من التعريض الإِجمالي بالوعيد الذي استفيد من قوله: { { إن الأولين والآخرين لمجموعون } [الواقعة: 49، 50].

وهذا التراخي الرتبي مثل الذي في قوله تعالى: { قل بلى وربي لتبعثن ثم لَتُنَبّؤنَّ بما عملتم } [التغابن: 7] بمنزلة الاعتراض بين جملة { { إن الأولين والآخرين } [الواقعة: 49] وجملة: { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [الواقعة: 57].

والخطاب موجه للمقول إليهم ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم فليس في هذا الخطاب التفات كما قد يتوهم، وفي ندائهم بهذين الوصفين إيماء إلى أنهما سبب ما لحقهم من الجزاء السَّيّىء، ووصفهم بأنهم: ضالون مكذّبون، ناظر إلى قولهم: { أئذا متنا وكنا تراباً } [الواقعة: 47] الخ.

وقدم وصف { الضالون } على وصف { المكذبون } مراعاة لترتيب الحصول لأنهم ضلّوا عن الحق فكذبوا بالبعث ليحذروا من الضلال ويتدبروا في دلائل البعث وذلك مقتضى خطابهم بهذا الإنذار بالعذاب المتوقع.

وشجر الزقوم: من شجر العذاب، تقدم في سورة الدخان.

والحميم: الماء الشديد الغليان، وقد تقدم في قوله تعالى: { لهم شراب من حميم } في سورة الأنعام (70) وتقدم قريباً في هذه السورة.

والمقصود من قوله: { فمالئون منها البطون } تفظيع حالهم في جزائهم على ما كانوا عليه من الترف في الدنيا بملء بطونهم بالطعام والشراب ملْئاً أنساهم إقبالهم عليه وشرْبهم من التفكرَ في مصيرهم.

وقد زيد تفظيعاً بالتشبيه في قوله: { فشاربون شرب الهيم }، كما سيأتي، وإعادة فعل (شاربون) للتأكيد وتكرير استحضار تلك الصورة الفظيعة. ومعنى { شاربون عليه } يجوز أن يكون (على) فيه للاستعلاء، أي شاربون فوقه الحميم، ويجوز مع ذلك استفادة معنى (مع) من حرف (على) تعجيباً من فظاعة حالهم، أي يشربون هذا الماء المحرق مع ما طعموه من شجر الزقوم الموصوفة في آية أخرى بأنها { يغلي في البطون كغَلي الحميم } [الدخان: 45، 46] فيفيد أنهم يتجرعونه ولا يستطيعون امتناعاً.

و{ مِن } الداخلة على { شجر } ابتدائية، أي آكلون أكلاً يؤخذ من شجر الزقوم، و{ من } الثانية الداخلة على { زقوم } بيانية لأن الشجر هو المسمى بالزقوم.

وتأنيث ضمير الشجر في قوله: { فمالئون منها البطون } لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتي مؤنثة غالباً.

وأما ضمير { عليه } فإنما جاء بصيغة المذكر لأنه عائد على الأكل المستفاد من قوله: { لآكلون }، أي على ذلك الأكل بتأويل المصدر باسم المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق.

والهِيم: جمع أهيم، وهو البعير الذي أصابه الهُيام بضم الهاء، وهو داء يصيب الإِبل يورثها حُمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروَى، أي شاربون من الحميم شرباً لا ينقطع فهو مستمرة آلامه.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر { شُرب } بضم الشين اسمَ مصدر شرب، وقرأ الباقون بفتح الشين وهو المصدر لشَرِب. ورويت عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صححه الحاكم، وخبر الواحد لا يزيد المتواترَ قُوة فكلتا القراءتين متواتر.

والفاء في قوله: { فشاربون عليه من الحميم } عطف على { لآكلون } لإِفادة تعقيب أكل الزقوم بــــ { شرب الهيم } دون فترة ولا استراحة.

وإعادة { فشاربون } توكيد لفظي لنظيره، وفائدة هذا التوكيد زيادة تقرير ما في هذا الشرب من الأعجوبة وهي أنه مع كراهته يزدادون منه كما ترى الأهيم، فيزيدهم تفظيعاً لأمعائهم لإِفادة التعجيب من حالهم تعجيباً ثانياً بعد الأول، فإن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة أمر عجيب، وشربهم له كما تَشرَب الإِبل الهِيم في الإِكثار أمر عجيب أيضاً، فكانتا صفتين مختلفتين.