التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ
٦٣
ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ
٦٤
-الواقعة

التحرير والتنوير

انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإِنشاء بعد العدم.

فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة: { { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [الواقعة: 57] كما فرع عليه قوله: { أفرأيتم ما تُمنون } [الواقعة: 58] ليكون الغرض من هذه الجمل متحداً وهو الاستدلال على إمكان البعث، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة { أفرأيتم } وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفاً وسيجيء نظيره في قوله بعده { { أفرأيتم الماء الذي تشربون } [الواقعة: 68] وقوله: { أفرأيتم النار التي تُورُون } [الواقعة: 71].

وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإِلهية جاز أيضاً أن تكون هذه الجملة مراداً بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعاً على جملة { أفرأيتم ما تمنون } من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإِلهية.

ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات، قال تعالى: { { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [نوح: 17].

والقول في { أفرأيتم ما تحرثون } نظير قوله: { { أفرأيتم ما تُمْنُون } [الواقعة: 58].

و{ ما تحرثون } موصول وصلة والعائد محذوف.

والحرث: شق الأرض ليزرع فيها أو يغرس.

وظاهر قوله: { ما تحرثون } أنه الأرض إلا أن هذا لا يلائم ضمير { تزرعونه } فتعين تأويل { ما تحرثون } بأن يقدر: ما تحرثون له، أي لأجله على طريقة الحذف والإيصال، والذي يحرثون لأجله هو النبات، وقد دل على هذا ضمير النصب في { أأنتم تزرعونه } لأنه استفهام في معنى النفي والذي ينفَى هو ما ينبت من الحب لا بذره.

فإن فعل (زرع) يطلق بمعنى: أنبت، قال الراغب: الزرع: الإِنبات، لقوله تعالى: { أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } فنفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه اهــــ واقتصر عليه، ويطلق فعل (زرع) بمعنى: بذر الحب في الأرض لقول صاحب «لسان العرب»: زرعَ الحب: بذره، أي ومنه سمي الحب الذي يبذر في الأرض زريعة لكن لا ينبغي حمل الآية على هذا الإطلاق. فالمعنى: أفرأيتم الذي تحرثون الأرض لأجله، وهو النبات ما أنتم تنبتونه بل نحن ننبته.

وجملة { أأنتم تزرعونه } الخ بيان لجملة { أفرأيتم ما تحرثون } كما تقدم في { { أأنتم تخلقونه } [الواقعة: 59] والاستفهام في { أأنتم تزرعونه } إنكاري كالذي في قوله: { أأنتم تخلقونه }.

والقول في موقع { أم } من قوله: { أم نحن الزارعون } كالقول في موقع نظيرتها من قوله: { { أم نحن الخالقون } [الواقعة: 59] أي أن (أم) منقطعة للإضراب.

وكذلك القول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: { أأنتم تزرعونه } مثل ما في قوله: { { أأنتم تخلقونه } [الواقعة: 59].

وكذلك القول في نفي الزرع عنهم وإثباته لله تعالى يفيد معنى قصر الزَّرع، أي الإِنبات على الله تعالى، أي دونهم، وهو قصر مبالغة لعدم الاعتداد بزرع الناس.

ويؤخذ من الآية إيماء لتمثيل خلق الأجسام خلقاً ثانياً مع الانتساب بين الأجسام البالية والأجسام المجددة منها بنبات الزرع من الحبة التي هي منتسبة إلى سنبلة زرع أخذت هي منها فتأتي هي بسنبلة مثلها.