التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ
٧٥
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
٧٦
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
٧٧
فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
٧٨
لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ
٧٩
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
-الواقعة

التحرير والتنوير

تفريع على جملة { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [الواقعة: 49، 50] يُعرِب عن خطاب من الله تعالى موجه إلى المكذبين بالبعث القائلين: { { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إنّا لمبعوثون } [الواقعة: 47]، انتقل به إلى التنويه بالقرآن لأنهم لما كذبوا بالبعث وكان إثباتُ البعث من أهم ما جاء به القرآن وكان مما أغراهُم بتكذيب القرآن اشتمالُه على إثبات البعث الذي عَدُّوه محالاً، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شركهم وأكاذيبهم، فلما قامت الحجة على خطئهم في تكذيبهم، فقد تبين صدق ما أنبأهم به القرآن فثبت صدقه ولذلك تهيّأ المقام للتنويه بشأنه.

والفاء لتفريع القَسم على ما سبق من أدلة وقوع البعث فإن قوله: { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [الواقعة: 49، 50]، إخبار بيوم البعث وإنذار لهم به وهم قد أنكروه، ولأجل استحالته في نظرهم القاصر كذبوا القرآن وكذّبوا من جاء به، ففرع على تحقيق وقوع البعث والإِنذار به تحقيق أن القرآن منزه عن النقائص وأنه تنزيل من الله وأن الذي جاء به مبلغ عن الله.

فتفريع القسم تفريع معنويُّ باعتبار المقسم عليه، وهو أيضاً تفريع ذِكري باعتبار إنشاء القسم إن قالوا لكم: أقسم بمواقع النجوم.

وقد جاء تفريع القَسم على ما قبله بالفاء تفريعاً في مجرد الذكر في قول زهير:

فأقسمت بالبيت الذي طَافَ حولهرجال بَنَوْه من قريش وجُرهم

عقب أبيات النسِيب من معلَّقته، وليس بين النسيب وبين ما تفرع عنه من القسم مناسبة وإنما أراد أن ما بعد الفاء هو المقصود من القصيد، وإنما قدم له النسيب تنشيطاً للسامع وبذلك يظهر البَون في النظم بين الآية وبين بيت زهير.

و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و (لا) مزيدة للتوكيد، وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم.

وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم لأن الأمر واضح الثبوت، ثم كثر هذا الاستعمال فصار مراداً تأكيد الخبر فساوى القسم بدليل قوله عقبه: { وإنه لقَسم لو تعلمون عظيم }، وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن.

وعلى الوجهين فهو إدماج للتنويه بشأن ما لو كان مُقسِماً لأقسم به. وعلى الوجه الثاني يكون قوله: { وإنه لقسم } بمعنى: وإن المذكور لشيء عظيم يُقسم به المقسمون، فإطلاق قسم عليه من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

وعن سعيد بن جبير وبعض المفسرين: أنهم جعلوا (لا) حرفاً مستقلاً عن فعل { أقسم } واقعاً جواباً لكلام مقدر يدل عليه بعده من قوله: { إنه لقرآن كريم } ردّاً على أقوالهم في القرآن أنه شعر، أو سحر، أو أساطير الأولين، أو قول كاهن، وجعلوا قوله: { أقسم } استئنافاً. وعليه بمعنى الكلام مع فاء التفريع أنه تفرع على ما سَطع من أدلة إمكان البعث ما يبطل قولكم في القرآن فهو ليس كما تزعمون بل هو قرآن كريم الخ.

و{ مواقع النجوم } جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع، أي محالُّ وقوعها من ثوابت وسيارة. والوقوع يطلق على السقوط، أي الهوى، فمواقع النجوم مواضع غُروبها فيكون في معنى قوله تعالى: { { والنجم إذا هوى } [النجم: 1] والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى: { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } [المعارج: 40]. وجعل { مواقع النجوم } بهذا المعنى مقسماً به لأن تلك المساقط في حال سقوط النجوم عندها تذكِّر بالنظام البديع المجعول لسير الكواكب كلَّ ليلة لا يختل ولا يتخلف، وتذكِّر بعظمة الكواكب وبتداولها خِلفة بعد أخرى، وذلك أمر عظيم يحق القسم به الراجع إلى القسم بمُبدعه.

ويطلق الوقوع على الحلول في المكان، يقال: وقعت الإِبل، إذا بركت، ووقعت الغنم في مرابضها، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم، فالمواقع: محالُّ وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريباً من قوله: { والسماء ذات البروج } [البروج: 1].

والمواقع هي: أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء، وكذلك بروجها ومنازلها.

وذكر (مواقع النجوم) على كلا المعنيين تنويه بها وتعظيم لأمرها لدلالة أحوالها على دقائق حكمة الله تعالى في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها.

ويجوز أن يكون (مواقع) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع.

ومن المفسرين من تأول النجوم أنها جمع نجم وهو القِسط الشيء من مال وغيره كما يقال: نجومُ الديات والغرامات وجعلوا النجوم، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن وهو عن ابن عباس وعكرمة فيؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى: { { والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً } [الزخرف: 2، 3].

وجملة { وإنه لقَسم لو تعلمون عظيم } معترضة بين القسم وجوابه.

وضمير { إنه } عائد إلى القَسم المذكور في { لا أقسم بمواقع النجوم }، أو عائداً إلى مواقع النجوم بتأويله بالمذكور فيكون قسم بمعنى مقسم به كما علمت آنفاً.

ويجوز أن يعود إلى المقسم عليه وهو ما تضمنه جواب القسم من قوله: { إنه لقرآن كريم }.

وجملة { لو تعلمون } معترضة بين الموصوف وصفته وهي اعتراض في اعتراض.

والعلْمُ الذي اقتضى شرطُ { لو } الامتناعية عدمَ حصوله لهم إن جعلت ضمير { إنه } عائداً على القسم هو العِلم التفصيلي بأحوال مواقع النجوم، فإن المشركين لا يخلون من علم إجمالي متفاوت بأن في تلك المواقع عبرة للناظرين، أو نُزّل ذلك العلم الإجمالي منزلة العدم لأنهم بكفرهم لم يجروا على موجَب ذلك العلم من توحيد الله فلو علِموا ما اشتملت عليه أحوال مواقع النجوم من متعلقات صفات الله تعالى لعلموا أنها مواقع قدسية لا يَحْلف بها إلا بارٌّ في يمينه ولكنهم بمعزل عن هذا العلم، فإن جلالة المقسم به مما يزع الحالف عن الكذب في يمينه. ودليل انتفاء علمهم بعظمته أنهم لم يدركوا دلالة ذلك على توحيد الله بالإِلهية فأثبوا له شركاء لم يخلقوا شيئاً من ذلك ولا ما يدانيه فتلك آية أنهم لم يدركوا ما في طي ذلك من دلائل حتى استوى عندهم خالق ما في تلك المواقع وغير خالقها.

فأما إن جعلت ضمير { وإنه لقسم } عائداً إلى المقسم عليه فالمعنى: لو تعلمون ذلك لما احتجتم إلى القسم.

وقرأ الجمهور { بمواقع } بصيغة الجمع بفتح الواو وبعدها ألف، وقرأه حمزة والكسائي وخلف { بموقع } سكون الواو دون ألف بعدها بصيغة المفرد على أنه مصدر ميمي، أي بوقوعها، أي غروبها، أو هو اسم لجهة غروبها كقوله: { { رب المشرق والمغرب } [المزمل: 9].

ومفعول { تعلمون } محذوف دل عليه الكلام، أي لو تعلمون عظمته، أي دلائل عظمته، ولك أن تجعل فعل { تعلمون } منزّلاً منزلة اللازم، أي لو كان لكم علم لكنكم لا تتصفون بالعلم.

وضمير { إنه لقرآن كريم } راجع إلى غير مذكور في الكلام لكونه معلوماً مستحضراً لهم.

والقرآن: الكلام المقروء، أي المتلوّ المكرر، أي هو كلام متعظ به محل تدبر وتلاوة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن } في سورة يونس (61).

والكريم: النفيس الرفيع في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: { { إني ألقي إلي كتاب كريم } في سورة النمل (29).

وهذا تفضيل للقرآن على أفراد نوعه من الكُتب الإِلهية مثل التوراة والإنجيل والزبور ومجلة لقمان، وفضلُه عليها بأنه فاقها في استيفاء أغراض الدين وأحوال المعاش والمعاد وإثبات المعتقدات بدلائل التكوين. والإِبلاغ في دحض الباطل دحضاً لم يشتمل على مثله كتاب سابق، وخاصة الاعتقاد، وفي وضوح معانيه، وفي كثرة دلالته مع قلة ألفاظه، وفي فصاحته، وفي حسن آياته، وحسن مواقعها في السمع وذلك من آثار ما أراد الله به من عموم الهداية به، والصلاحية لكل أمة، ولكل زمان، فهذا وصف للقرآن بالرفعة على جميع الكتب حقاً لا يستطيع المخالف طعناً فيه.

وبعد أن وصف القرآن بـ { كريم }، وصف وصفاً ثانياً بأنه { في كتاب مكنون } وذلك وصف كرامة لا محالة، فليس لفظ { كتاب } ولا وصف { مكنون } مراداً بهما الحقيقة إذ ليس في حمل ذلك على الحقيقة تكريم، فحرف (في) للظرفية المجازية.

والكتاب المكنون: مستعار لموافقة ألفاظ القرآن ومعانيه ما في علم الله تعالى وإرادته وأمرِه الملك بتبليغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك شؤون محجوبة عنّا فلذلك وصف الكتاب بالمكنون اشتقاقاً من الاكتنان وهو الاستتار، أي محجوب عن أنظار الناس فهو أمر مغيّب لا يعلم كنهه إلا الله.

وحاصل ما يفيده معنى هذه الآية: أن القرآن الذي بلَغَهم وسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم هو موافق لما أراد الله إعلام الناس به وما تعلقت قدرته بإيجاد نظمه المعجز، ليكمل له وصف أنه كلام الله تعالى وأنه لم يصنعه بشر.

ونظير هذه الظرفية قوله تعالى: { { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } في سورة الأنعام (59) إلى قوله: { { إلا في كتاب مبين } في سورة الأنعام (59)، وقوله: { وما يُعَمَّر من معمَّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } [فاطر: 11] أي إلا جارياً على وفق ما علمه الله وجَرى به قَدَره، فكذلك قوله هنا: { في كتاب مكنون }، فاستعير حرف الظرفية لمعنى مطابقةِ ما هو عند الله، تشبيهاً لتلك المطابقة باتحاد المظروف بالظرف. وقريب منه قوله تعالى: { إن هذا لفي الصحف الأولى صحُف إبراهيم وموسى } [الأعلى: 18، 19] وهذا أولى من اعتبار المجاز في إسناد الوصف بالكون في كتاب مكنون إلى قرآن كريم على طريقة المجاز العقلي باعتبار أن حقيقة هذا المجاز وصف مماثل القرآن ومطابقه لأن المماثل ملابس لمماثله.

واستعير الكتاب للأمر الثابت المحقق الذي لا يقبل التغيير، فالتأم من استعارة الظرفية لمعنى المطابقة، ومن استعارة الكتاب للثابت المحقق معنى موافقة معاني هذا القرآن لما عند الله من متعلّق علمه ومتعلّق إرادته وقدرته وموافقة ألفاظه لما أمر الله بخلقه من الكلام الدال على تلك المعاني على أبلغ وجه، وقريب من هذه الاستعارة قول بشر بن أبي حازم أو الطرمَّاح:

وجدنا في كتاب بني تميمأحق الخيل بالركض المعار

وليس لبني تميم كتاب ولكنه أطلق الكتاب على ما تقرر من عوائدهم ومعرفتهم.

وجملة { لا يمسه إلا المطهرون } صفة ثانية لــــ { كتاب }.

و{ المطهّرون }: الملائكة، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء. وهذا قول جمهور المفسرين وفي «الموطأ» قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية { لا يمسه إلا المطهرون } أنها بمنزلة هذه الآية التي في "عبس وتولى" (11 ـــ 16) قول الله تبارك وتعالى: { { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صُحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة } اهــ. يريد أن { المطهرون } هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون.

ومعنى المسّ: الأخذ وفي الحديث: «مَس من طيبة»، أي أخذ. ويطلق المسّ على المخالطة والمطالعة قال يزيد بن الحكم الكلابي:

مسِسْنا من الآباء شيئاً فكلُّناإلى حسَب في قومه غير واضع

قال المرزوقي في شرح هذا البيت من «الحماسة»: «مسسنا» يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا لأن المس باليد يقصد به الاختبار. ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا ا هــــ. فالمعنى: أن الكتاب لا يباشر نقل ما يحتوي عليه لتبليغه إلا الملائكة.

والمقصود من هذا أن القرآن ليس كما يزعم المشركون قول كاهن فإنهم يزعمون أن الكاهن يتلقى من الجن والشياطين ما يسترِقونه من أخبار السماء بزعمهم، ولا هو قول شاعر إذ كانوا يزعمون أن لكل شاعر شيطاناً يملي عليه الشعر، ولا هو أساطير الأولين، لأنهم يعنون بها الحكايات المكذوبة التي يَتلهى بها أهلُ الأسمار، فقال الله: إن هذا القرآن مطابق لما عند الله الذي لا يشاهده إلا الملائكة المطهرون.

وجملة { تنزيل من رب العالمين } مبينة لجملة { في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } فهي تابعة لصفة القرآن، أي فبلوغه إليكم كان بتنزيل من الله، أي نزل به الملائكة.

وفي معنى نظم هذه الآية قوله تعالى: { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين } [الحاقة: 41 ـــ 43].

وإذ قد ثبتت هذه المرتبة الشريفة للقرآن كان حقيقاً بأن تعظم تلاوته وكتابته، ولذلك كان من المأمور به أن لا يمَس مكتوبَ القرآن إلا المتطهِّرُ تشبهاً بحال الملائكة في تناول القرآن بحيث يكون ممسك القرآن على حالة تطهر ديني وهو المعنى الذي تومىء إليه مشروعية الطهارة لمن يريد الصلاة نظير ما في الحديث "المصلي يناجي ربه" .

وقد دلت آثار على هذا أوضحها ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أقيال ذي رعين وقعافر وهمذان وبعثها به مع عمرو بن حزم "أن لا يمس القرآن إلا طاهر" . وروى الطبراني عن عبد الله بن عُمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر»، قال المناوي: وسنده صحيح وجعله السيوطي في مرتبة الحسن.

وفي كتب السيرة أن عمر بن الخطاب قبل أن يُسلم دخل على اخته وهي امرأة سعيد بن زيد فوجدها تقرأ القرآن من صحيفة مكتوب فيها سورة طه فدعا بالصحيفة ليقرأها فقالت له: لا يمسه إلا المطهّرون فقام فاغتسل وقرأ السورة فأسلم، فهذه الآية ليست دليلاً لحكم مسّ القرآن بأيدي الناس ولكن ذكر الله إياها لا يخلو من إرادة أن يقاس الناسُ على الملائكة في أنهم لا يمسّون القرآن إلا إذا كانوا طاهرين كالملائكة، أي بقدر الإِمكان من طهارة الآدميين.

فثبت بهذا أن الأمر بالتطهر لمن يمسك مكتوباً من القرآن قد تقرر بين المسلمين من صدر الإِسلام في مكة.

وإنما اختلف الفقهاء في مقتضى هذا الأمر من وجوب أو ندب، فالجمهور رأوا وجوب أن يكون ممسك مكتوب القرآن على وضوء وهو قول علي وابن مسعود وسعد وسعيد وعطاء والزهري ومالك والشافعي، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقال فريق: إن هذا أمر ندب وهو قول ابن عباس والشعبي، وروي عن أبي حنيفة وهو قول أحمد وداود الظاهري.

قال مالك في «الموطأ» «ولا يحمل أحد المصحف لا بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر إكراماً للقرآن وتعظيماً له». وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء من «العتبية» في المسألة السادسة «سئل مالك عن اللوح فيه القرآن أيمس على غير وضوء؟ فقال: أما للصبيان الذين يتعلمون فلا رأى به بأساً، فقيل له: فالرجل يتعلم فيه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفاً، فقيل لابن القاسم: فالمُعلِّمُ يشكِّل ألواح الصبيان وهو على غير وضوء، قال: أرى ذلك خفيفاً». قال ابن رشد في «البيان والتحصيل»: «لما يلحقه في ذلك من المشقة فيكون ذلك سبباً إلى المنع من تعلمه. وهذه هي العلة في تخفيف ذلك للصبيان. وأشار الباجي في «المنتقى» إلى أن إباحة مسّ القرآن للمتعلم والمعلم هي لأجل ضرورة التعلم.

وقد اعتبروا هذا حكماً لما كتب فيه القرآن بقصد كونه مصحفاً أو جزءاً من مصحف أو لَوحاً للقرآن ولم يعتبروه لما يكتب من آي القرآن على وجه الاقتباس أو التضمين أو الاحتجاج ومن ذلك ما يكتب على الدنانير والدراهم وفي الخواتيم.

والمراد بالطهارة عند القائلين بوجوبها الطهارة الصغرى، أي الوضوء، وقال ابن عباس والشعبي: يجوز مسّ القرآن بالطهارة الكبرى وإن لم تكن الصغرى.

ومما يلتحق بهذه المسألة مسألة قراءة غير المتطهّر القرآن وليست مما شملته الآية ظاهراً ولكن لمّا كان النهي عن أن يمسّ المصحف غير متطهّر لعله أن المس ملابسة لمكتوب القرآن فقد يكون النهي عن تلاوة ألفاظ القرآن حاصلاً بمفهوم الموافقة المساوي أو الأحرى، إذ النطق ملابسة كملابسة إمساك المكتوب منه أو أشد وأحسب أن ذلك مثار اختلافهم في تلاوة القرآن لغير المتطهّر. وإجماع العلماء على أن غير المتوضىء يقرأ القرآن مع اختلافهم في مسّ المصحف لغير المتوضىء يشعر بأن مس المصحف في نظرهم أشدُّ ملابسة من النطق بآيات القرآن.

قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا يجوز للجنب قراءة القرآن ويجوز لغير المتوضىء. وقلت: شاع بين المسلمين من عهد الصحابة العمل بأن لا يتلو القرآن من كان جنباً ولم يُوثر عنهم إفتاء بذلك. وقال أحمد وداود: تجوز قراءة القرآن للجنب. ورخص مالك في قراءة اليسير منه كالآية والآيتين، ولم يشترط أحد من أهل العلم الوضوء على قارىء القرآن.

واختلف في قراءته للحائض والنفساء. وعن مالك في ذلك روايتان، وأحسب أن رواية الجواز مراعى فيها أن انتقاض طهارتهما تطول مدته فكان ذلك سبباً في الترخيص.