التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٨٨
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
٨٩
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩٠
فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩١
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ
٩٢
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
٩٣
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
٩٤
-الواقعة

التحرير والتنوير

لما اقتضى الكلام بحذافره أن الإِنسان صاحب الروح صائر إلى الجزاء فرع عليه إجمال أحوال الجزاء في مراتب الناس إجمالاً لما سبق تفصيله بقوله: { { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [الواقعة: 7] إلى قوله: { { لا بَارِدٍ ولا كريم } [الواقعة: 44] ليكون هذا فذلكة للسورة وردّاً لعجزها على صدرها.

فضمير { إن كان } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { إليه } من قوله: { ونحن أقرب إليه منكم } [الواقعة: 85].

والمقربون هم السابقون الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى: { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [الواقعة: 85] وأصحاب اليمين قد تقدم والمكذبون الضالون: هم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم.

وقد ذكر لكل صنف من هؤلاء جزاء لم يُذكر له فيما تقدم ليضم إلى ما أعدّ له فيما تقدم على طريقة القرآن في توزيع القصة.

والرَّوْح: بفتح الراء في قراءة الجمهور، وهو الراحة، أي فرَوْح له، أي هو في راحة ونعيم، وتقدم في قوله: { ولا تيأسوا من روح الله } في سورة يوسف (87). وقرأه رويس عن يعقوب بضم الراء. ورويت هذه القراءة عن عائشة عن النبي عند أبي داود والترمذي والنسائي، أي أن رسول الله روي عنه الوجهان، فالمشهور روي متواتراً، والآخر روي متواتراً وبالآحاد، وكلاهما مراد.

ومعنى الآية على قراءة ضم الراء: أن روحه معها الريحان وهو الطيب وجنة النعيم. وقد ورد في حديث آخر: أن رُوح المؤمن تخرج طيبة. وقيل: أطلق الرُّوح بضم الراء على الرحمة لأن من كان في رحمة الله فهو الحيّ حقاً، فهو ذو روح، أما من كان في العذاب فحياته أقل من الموت، قال تعالى: { { لا يموت فيها ولا يحيى } [الأعلى: 13]، أي لأنه يتمنى الموت فلا يجده.

والريحان: شجر لورقة وقضبانه رائحة ذكية شديد الخضرة كانت الأمم تزين به مجالس الشراب. قال الحريري «وطوراً يستبزل الدنان، ومرة يستنثق الريحان» وكانت ملوك العرب تتخذهُ، قال النابغة:

يُحَيَّوْن بالريحان يوم السباسب

وتقدم عند قوله تعالى: { والحبّ ذو العصف والريحان } في سورة الرحمٰن (12)، فتخصيصه بالذكر قبل ذكر الجنة التي تحتوي عليه إيماء إلى كرامتهم عند الله، مثل قوله: { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } [الرعد: 23، 24].

وجملة { فروح وريحان } جواب (أما) التي هي بمعنى: مهما يكن شيء. وفُصل بين (ما) المتضمنة معنى اسم شرط وبين فعل شرط وبين الجواب بشرط آخر هو { إن كان من المقربين } لأن الاستعمال جرى على لزوم الفصل بين (أمّا) وجوابها بفاصل كراهية اتصال فاء الجواب بأداة الشرط لما التزموا حذف فعل الشرط فأقاموا مقامه فاصلاً كيفَ كان.

وجواب (إن) الشرطية محذوف أغنى عنه جواب (أمَّا).

وكذلك قوله: { فسلام لك من أصحاب اليمين }.

والسلام: اسم للسلامة من المكروه، ويطلق على التحية، واللام في قوله: { لك } للاختصاص. والكلام إجمال للتنويه بهم وعلوّ مرتبتهم وخلاصهم من المكدرات لتذهب نفس السامع كل مذهب.

واختلف المفسرون في قوله: { فسلام لك من أصحاب اليمين } فقيل: كاف الخطاب موجهة لغير معين، أي لكل من يسمع هذا الخبر. والمعنى: أن السلامة الحاصلة لأصحاب اليمين تسر من يبلغه أمرها. وهذا كما يقال: ناهيك به، وحسبك به، و (من) ابتدائية، واللفظ جرى مجرى المثل فطوي منه بعضه، وأصله: فلهم السلامة سلامة تسرّ من بلغه حديثها.

وقيل: الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وتقرير المعنى كما تقدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يُسرّ بما يناله أهل الإسلام من الكرامة عند الله وهم ممن شملهم لفظ { أصحاب اليمين }. وقيل: الكلام على تقدير القول، أي فيقال له: سلام لك، أي تقول له الملائكة.

و{ من أصحاب اليمين } خبر مبتدأ محذوف، أي أنت من أصحاب اليمين، و{ من } على هذا تبعيضية، فهي بشارة للمخاطب عند البعث على نحو قوله تعالى: { { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } [الرعد: 23، 24].

وقيل: الكاف خطاب لمن كان من أصحاب اليمين على طريقة الالتفات. ومقتضى الظاهر أن يقال: فسلام له، فعدل إلى الخطاب لاستحضار تلك الحالة الشريفة، أي فيسلم عليه أصحاب اليمين على نحو قوله تعالى: { { وتحيتهم فيها سلام } [يونس: 10] أي يبادرونه بالسلام، وهذا كناية عن كونه من أهل منزلتهم، و{ من } على هذا ابتدائية.

فهذه محامل لهذه الآية يستخلص من مجموعها معنى الرفعة والكرامة.

والمكذبون الضالون: هم أصحاب الشمال في القسم السابق إلى أزواج ثلاثة.

وقدم هنا وصف التكذيب على وصف الضلال عكس ما تقدم في قوله: { { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون } [الواقعة: 51]، لمراعاة سبب ما نالهم من العذاب وهو التكذيب، لأن الكلام هنا على عذاب قد حان حينه وفات وقت الحذر منه فبُيّن سبب عذابهم وذكروا بالذي أوقعهم في سببه ليحصل لهم ألم التندم.

والنزل: ما يُقدم للضيف من القرى، وإطلاقه هنا تهكم، كما تقدم قريباً في هذه السورة كقوله تعالى: { هذا نُزلهم يوم الدين } [الواقعة: 56].

والتصلية: مصدر صلاَّه المشدّد، إذا أحرقه وشواه، يقال: صلى اللحم تصلية، إذا شواه، وهو هنا من الكلام الموجه لإِيهامه أنه يُصلّى له الشواء في نزله على طريقة التهكم، أي يحرّق بها.

والجحيم: يطلق على النار المؤججة، ويطلق عَلَماً على جهنّم دار العذاب الآخرة.