التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٠
-المجادلة

التحرير والتنوير

تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلاً لتأكيد النهي عن النجوى.

والتعريف في { النجوى } تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحصر المستفاد من { إنما } قصر موصوف على صفة و{ من } ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. وهذه العلة ليست قيداً في الحصر فإن للشيطان عللاً أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية.

وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: { وليس بضارهم شيئاً } ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو من قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [الحجر: 42]

وقرأ نافع وحده { لِيُحزن } بضم الياء وكسر الزاي فيكون { الذين آمنوا } مفعولاً. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزن فيكون{ الذين آمنوا } فاعلاً وهما لغتان.

وجملة { وليس بضارهم } الخ معترضة.

وضمير الرفع المستتر في قوله: { بضارهم } عائد إلى { الشيطان }.

والمعنى: أن الشيطان لا يضرّ المؤمنين بالنجوى أكثر من أنه يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: { لن يضرّوكم إلآ أذى } [آل عمران: 111] أو عائد إلى النجوى بتأويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضارّ المؤمنين لأن أكثره ناشىء عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.

وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: { إلا بإذن الله } استثناء من أحوال والباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون الله قدّر شيئاً من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإِذن أمر التكوين.

وانتصب { شيئاً } على المفعول المطلق، أي شيئاً من الضُر.

ووقوع { شيئاً } وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضرّ من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها، والاستثناء في قوله تعالى: { إلا بإذن الله } من عموم { شيئاً } الواقع في سياق النفي، أي لا ضراً ملابساً لإِذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته.

واستعير الإِذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسوّل إليها. وهو معنى قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42] فإذا خلّى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد من المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين. وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى في شأن الشيطان { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين } أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإِلٰهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أحوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى.

ولهذا ذيل بقوله: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لأنهم إذا توكلوا على الله توكلاً حقاً بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3].

ويجوز أن يكون عموم { شيئاً } مراداً به الخصوص، أي ليس بضارّهم شيئاً مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل.

والمعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعاً فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله في نفس الآمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.

وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.