التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١١٧
-الأنعام

التحرير والتنوير

تعليل لقوله: { { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك } [الأنعام: 116] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالّين، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم. وكذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار: أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله، بحيث تغني غَناء فاء التّفريع، وتفيد التّعليل، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين، وهدى المهتدين، كان قوله: { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } تذييلاً لجميع تلك الأغراض.

وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله: { إن ربك } لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّاً لهم. وقد قال أبو سفيان يوم أحُد: «لَنَا العُزّى ولا عُزّى لكم ــــ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبوه قولوا: "اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم" .

و{ أعلمُ } اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين، ولا أحد من المهتدين، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين.

والضّمير في قوله: { هو أعلم } ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس، وكلّهم يعلم قصور علمه، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة.

و{ مَنْ } موصولة، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله: { وهو أعلم بالمهتدين } لأنّ أفعل التّفضيل لا ينصب بنفسه مفعولاً به لضعف شبهه بالفعل، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللاّم أو بإلى، ونصبه المفعول نادر، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء، فحذفت الباء ايجازَ حذف، تعويلا على القرينة. وإنَّما حذف الحرف من الجملة الأولى، وأظهر في الثّانية، دون العكس، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمععٍ يكون المفضّل واحداً منهم، نحو: هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء، فلمّا كان المنصُوباننِ فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب، يلتبس المفعول بالمضاف إليه، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم، فلا يتوهّم أن يكون المعنى: الله أعلم الضّالّين عن سبيله، أي أعلم عالممٍ منهم، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال: فلان أعلم الجاهلين، لأنّه كلام مُتناقض، فإنّ الضّلال جهالة، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم، وذلك من أنواع القرينة الحاليَّة، بخلاف ما لو قال: وهو أعلم المهتدين، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ الله أعلم المهتدين، أي أقوى المهتدين علماً، لأنّ الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله: { هو أعلم من يضل عن سبيله } من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به { أعلم }.