التفاسير

< >
عرض

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٢
-الأنعام

التحرير والتنوير

الواو في قوله: { أو من كان ميتاً } عاطفة لجملة الاستفهام على جملة: { { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [الأنعام: 121] لتضمّن قوله: { وإن أطعتموهم } أنّ المجادلة، المذكورة من قَبْلُ، مجادلة في الدّين: بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها: تحريم الميتة، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه. فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله: { { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [الأنعام: 121] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى: تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام.

والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين: فالحالة الأولى: حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات، فصار حيّاً في نورٍ واضححٍ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس، والحالة الثّانية: حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنَّه في ظلمات.

وفي الكلام إيجازُ حذففٍ، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف: فقوله: { أو من كان ميتاً } معناه: أَحَال مَن كان ميّتاً، أو صِفة مَن كان ميّتاً. وقوله: { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات. وقوله: كمن مثله في الظلمات تقديره: كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق (مَن) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ (مثَل) بمعنى حالة. ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: { { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور } [الرعد: 16] ــــ وقوله ــــ { { أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون } [السجدة: 18]. والكاف في قوله: { كمن مثله في الظلمات } كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.

والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة: { أو من كان ميتاً } إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة: { كمن مثله في الظلمات } الخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين: أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين.

ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله: { كمن مثله } مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة: في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية؛ فنحا القطب الرّازي في «شرح الكشاف» القبيلَ الأول، ونحا التفتزاني القبيلَ الثّاني، والأظهر ما نحاه التفتزاني: أنَّهما استعارتان تمثيليتان، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين. وبين الاعتبارين بون خفي.

والمراد: بــــ{ الظّلمات } ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت، وبقرينة ظاهر { في } من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج.

ولقد جاء التّشبيه بديعاً: إذ جعل حال المسلم، بعد أن صار إلى الإسلام، بحال من كان عديم الخير، عديم الإفادة كالميّت، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل، ويعلم الصّالح من الفاسد، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح، ويتنكّب عن سبيل الفساد، فصار في نور يمشي به في النّاس. وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم.

والباء في قوله: { يمشي به } باء السّببيّة. والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني. والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين. وقد جاء المركب التّمثيلي تاماً صالحاً لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل.

وجملة: { ليس بخارج منها } حال من الضّمير المجرور بإضافة (مَثل)، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك.

وجملة: { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } استئناف بياني، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالاً، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقاً بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين، هذا التّزيين العجيب، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالاً مزيَّناً أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم: (والسّفاهة كاسمها).

واسم الإشارة في قوله: { كذلك زين للكافرين } مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل { زين } أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيداً ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: { { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة (143).

وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول: لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه. والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم، كقوله: { { وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } [الأنعام: 137]، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون. والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله: { { وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } [الأنعام: 121].