التفاسير

< >
عرض

وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
-الملك

التحرير والتنوير

عطف على الجمل السابقة عطف غرض على غرض، وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد فأنزل الله { وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به } كذا روي عن ابن عباس.

وصيغة الأمر في { وأسروا } و { اجهروا } مستعملة في التسوية كقوله تعالى: { { فاصبروا أو لا تصبروا } [الطور: 16]، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها { أو } عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.

فقوله: { إنه عليم بذات الصدور } تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول، أي فسواء في علم الله الإِسرار والإِجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بَلْهَ ما يسرون به من الكلام، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القويّ علمُه.

وضمير { إنه } عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير، لأن الاسم الذي في جملة { { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } [الملك: 12] لا يكون معاداً لكلام آخر.

و (ذات الصدور) مَا يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال. وهو مركب من (ذات) التي هي مؤنث (ذُو) بمعنى صاحب، و { الصدور } بمعنى العقول وشأن (ذُو) أن يضاف إلى ما فيه رفعة.

وجملة { ألا يعلم من خلق } استئناف بياني ناشىء عن قوله: { إنه عليم بذات الصدور } بأن يسأل سائل منهم: كيف يعلم ذات الصدور، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه؟ فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالاً لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خَلدها، فالإِتيان بـ { مَن } الموصولة لإِفادة التعليل بالصلة.

فيجوز أن يكون { مَن خَلَق } مفعول { يعلم } فيكون { يعلم } و { خلَق } رافعين ضميرين عائديْن إلى ما عاد إليه ضمير { إنه عليم بذات الصدور }، فيكون { مَن } الموصولة صادقة على المخلوقين وحُذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه. والتقدير: من خلقهم.

ويجوز أن يكون { من خلق } فاعل { يعلم } والمراد الله تعالى، وحُذف مفعول { يعلم } لدلالة قوله: { وأسروا قولَكم أو اجهروا به }. والتقدير: ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير.

والعلم يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دالٌ على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة.

وجملة { وهو اللطيف الخبير } الأحسن أن تجعل عطفاً على جملة { ألا يعلم من خلق } لتفيد تعليماً للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإِسرار من الأحوال.

و { اللطيف }: العالم خبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة.

و { الخبير }: العليم الذي لا تعزب عنه الحوادثُ الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضاً بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر، وتقدم عند قوله تعالى: { وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } في الأنعام (103) وعند قوله: { { إن الله لطيف خبير } في سورة لقمان (16).