التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٨
-الملك

التحرير والتنوير

هذا تكرير ثان لفعل { قل هو الذي أنشأكم } [الملك: 23].

كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم { { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [الطور: 30] وحكى عن بعضهم { ويَتربص بكم الدوائر } [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: { { وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك } [الأنفال: 30]، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَّه إليه عمله، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالى: { فإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [الزخرف: 41، 42] وقال: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون } [الأنبياء: 34] وقال: { إنك مَيت وإنهم ميتون } [الزمر: 30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن، وينسب إلى الشافعي:

تمنَّى رجال أن أموت فإنْ أمتفتلكَ سبيل لستُ فيها بأوْحَدِ

فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم: { { متى هذا الوعد } [الملك: 25] بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا: أبَعْدَ هلاكك يأتي الوَعْد.

والإهلاك: الإِماتة، ومقابلةُ { أهلكني } بـ { رحِمنا } يدل على أن المراد: أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكَم أرادها كما دلّ عليه قوله: "حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم" ، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة { إذا جاء نصر الله } من قوله: { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره } [النصر: 1ــ 3]. ولله درَ عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله:

رأيت لمنايا لم يدعْنَ محمداًولا باقياً إلاَّ لَهْ الموتُ مُرْصَداً

وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال { { ورفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4]، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يَرُدُّ عليه روحَه الزكية كلَّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح.

وإنما سمَّى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدراً حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة.

والاستفهام في { أرأيتم } إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعاً ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.

والرؤية علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بَعْدَه مفعولاه، وهو معلق بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام: أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكتُ وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المُعدّ للكافرين.

وأُقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه.

والفاء في قوله: { فمن يأتيكم } [الملك: 30] رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصلُه المبتدأ والخبرُ وهو المفعولان المقدّران رُجّح جانب الشرط.

والمعية في قوله: { ومن معي } معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } [الفتح: 29] الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله: { والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم } [التحريم: 8] كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة: «أنا مع ابن أخي»، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعتْ حملها قبل مضي عدة الوفاة.

والاستفهام بقوله: { فمن يجير الكافرين } الخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيراً لكم إذا هَلَكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا.

والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها.

وتنكير { عذاب } للتهويل.

والمراد بـ { الكافرين } جميع الكافرين فيشمل المخاطبين.

والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره: من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين.

وذُكر وصف { الكافرين } لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف.

وقرأ الجمهور بفتحة على ياء { أهلكنيَ }، وقرأها حمزة بإسكان الياء.

وقرأ الجمهور ياء { معيَ } بفتحة. وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.