التفاسير

< >
عرض

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
٨
قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ
٩
-الملك

التحرير والتنوير

أُتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.

فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يَتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به.

و { كلما } مركب من (كل) اسم دال على الشمول ومن (ما) الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوَّل مع الفعل الذي بعده بمصدره.

والتقدير: في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتُها الفوجَ.

وباتصال (كل) بحرف (ما) المصدرية الظرفية اكتسبَ التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مُرتبة إحداهما على الأخرى.

وجيء بفعلى { أُلقي } و { سألهم } ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد { كلما } أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.

والفوج: الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود، وتقدم عند قوله تعالى: { { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } في سورة النمل (83).

وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله: سألهم } الخ. لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله: { { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [الحجرات: 9].

وخزنة النار: الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن: الذي يخزن شيئاً، أي يحفظه في مكان حصين، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل.

وجملة { ألم يأتكم نذير } بيان لجملة { سألهم } كقوله: { فوسوس إليه الشيطان قال يا ءادم هل أدلك على شجرة الخلد } [طه: 120].

والاستفهام في { ألم يأتكم نذير } للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة.

والنذير: المنذر، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو ابن معد يكرب:

أمــــن ريــــاحنة الــــداعي السميـــع

والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة: { كلّما أُلقي فيها فوج } الخ بمعنى التذييل.

وجملة: { قالوا بلى قد جاءنا نذير } معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضاً يشير إلى أن الفوج قاطَعَ كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبّخوهم عليه وذلك من شدة الخوف.

وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض، ولوقوعها في سياق المحَاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة (30). وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف بلى } المفيد نقيض النفي في الاستفهام، فهو مفيد معنى: جاءنا نذير. ولذلك كان قولهم: { قد جاءنا نذير } موكداً لما دلت عليه { بلى }، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق بـ { قد }، وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطأ.

وجملة: { إن أنتم إلاَّ في ضلال كبير } الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فُصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراضُ جوابِ الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفاً، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى: { { وقَالوا لو كنا نسمع } [الملك: 10] الخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته.

ويجوز أن تكون جملة { إن أنتم إلا في ضلال كبير } من تمام كلام كل فوج لنذيرهم. وأتي بضمير جمع المخاطبين مع أن لكل قوم رسولاً واحداً في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس؛ إما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جُمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج، أي قال جميع الأفواج: { بلى قد جاءنا نذير } إلى قوله: { إن أنتم إلا في ضلال كبير }، على طريقة المثال المشهور: «ركِب القوم دوابهم»، وإما على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعِه الذين يؤمنون بما جاء به.

وعموم { شيء } في قوله: { ما نزَّل الله من شيء } المرادِ منه شيء من التنزيل، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن يُنزل الله وحياً على بشر، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى: { { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وقد تقدم في آخر [الأنعام: 91].

ووصف الضلال بـ { كبير } معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.

ومعنى القصر المستفادِ من النفي والاستثناء في { إن أنتم إلا في ضلال كبير } قصرُ قلب، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلاّ الضلال، وليس الوحَي الإِلهي والهدى كما تزعمون.

والظرفية مجازية لتشبيههم تَمَحُّضَهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف.