التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٤٢
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ
٤٣
-القلم

التحرير والتنوير

يجوز أن يكون { يوم يُكشف } متعلقاً بقوله: { فليأتوا بشركائهم } [القلم: 41]، أي فليأتوا بالمزعومين يومَ القيامة، وهذا من حُسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم.

ويجوز أن يكون استئنافاً متعلقاً بمحذوف تقديره: اذكُرْ يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم.

وعلى كلا الوجهين في تعلق { يوم } فالمراد باليوم يوم القيامة.

والكشف عن ساق: مثَل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال: شمر عن ساعد الجد، وأيضاً كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادةً، فيقال: كشفت عن ساقها أو شَمَّرت عن ساقها، أو أبْدت عن ساقها، قال عبد الله بن قيس الرقيات:

كيف نوْمي على الفراش ولماتشملْ الشامَ غارةٌ شَعْواء
تُذهل الشيخ عن بنيه وتبديعن خِدَام العقيلة العذراء

وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك: «انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وأنهما لمشمّرتان أرى خَدَم سوقهمَا تنقلان القِرَب على متُونهما ثم تُفْرِغَانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها» الخ، فإذا قالوا: كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساقه. وإذا قالوا: كشف الأمر عن ساق، فقد مثلوه بالمرأة المروعة، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم:

فتى الحرب عضّت به لحرب الحرب عضهاوإن شمرت عن سَاقها الحرب شمَّرا

وقال جد طرفة من الحماسة:

كشفتْ لهم عن ساقهاوبدا من الشر البَواح

وقرأ ابن عباس { يوم تَكشف } بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة، وقريب من هذا قولهم: قامت الحرب على ساق.

والمعنى: يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروْع، قال ابن عباس: يكشف عن ساق: عن كرب وشدة، وهي أشد ساعة في يوم القيامة.

وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا، فقال: «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب»، أما سمعتم قول الشاعر:

صبراً عَنَاقُ إنه لشِرْباقْفقد سنّ لي قومُككِ ضربَ الأعناقْ
وقامت الحرب بنا على ساق

وقال مجاهد: { يكشف عن ساق }: شدّة الأمر.

وجملة { ويُدْعون } ليس عائداً إلى المشركين مثل ضمير { إِنا بلوناهم } [القلم: 17] إذ لا يساعد قوله: { وقد كانوا يدعون إلى السجود } فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يُدْعَون إلى السجود. فالوجه أن يكون عائداً إلى غير مذكور، أي ويُدعَى مدعوون فيكون تعريضاً بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخُلص عن غيرهم تَميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم، قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود: فمن كان يعبد الله مخلصاً يخِرُّ ساجداً له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنَّ في ظهورهم السفافيد اهـ. فيكون قوله تعالى: { ويُدعون إلى السجود } إدماجاً لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم.

وفي «صحيح مسلم» من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلاّ جعل الله ظهره طبقَة واحدة كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه" الحديث، فيصلح ذلك تفسيراً لهذه الآية.

وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا: يكشِف الله عن ساقه، أي عن مثل الرِجْل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { عن ساقٍِ } قال يكشف عن نور عظيم يَخرون له سجداً.

ورُويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها.

و { السجود } الذي يُدعون إليه: سجودُ الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف.

وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة.

والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى: { { يَوم يدعو الداعي إلى شيء نكر } إلى قوله: { مهطعين إلى الداعي } [القمر: 6ــ 8]، أو يدعو بعضهم بعضاً بإلهام من الله تعالى، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي «فيقول بعضهم لبعض: لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يريحنا من موقفنا هذا».

وخشوع الأبصار: هيئة النظر بالعين بذلة وخَوف، استعير له وصف { خاشعة } لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفياً.

و { ترهقهم }: تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، رَهِقَ من باب فَرِح قال تعالى: { تَرْهَقُها قَتَرة } [عبس: 41].

وجملة { ترهقهم ذِلة } حال ثانية من ضمير { يستطيعون }.

وجملة { وقد كانوا يُدْعَوْن إلى السجود وهم سالمون } معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها، أي كانوا في الدّنيا يُدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر. والواو للحال وللاعتراض.

وجملة { وهم سالمون } حال من ضمير { يُدعون } أي وهم قادرون لا علة تعوقهم عنه في أجسادهم. والسلامة: انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم مُلْجَأُون لعدم السجود.