التفاسير

< >
عرض

وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٥٢
-القلم

التحرير والتنوير

عطف على جملة { { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } [القلم: 44]، عرَّف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن.

والزلَق: بفتحتين زَلل الرجل من مَلاَسَةِ الأرض من طين عليها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى: { فتُصْبِحَ صعيداً زلَقاً } في سورة الكهف (40).

ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالباً أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا { ليَزْلقونك }، أي يسقطونك ويصرعونك.

وعن مجاهد: أيْ ينفذونك بنظرهم. وقال القرطبي: يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس: لم يسمع الزلق والإِزلاق إلاّ في القرآن اهـ.

قلت: وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإِزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل (يزلقونك) وهذا مثل قوله تعالى: { { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } [آل عمران: 155].

وقرأ نافع وأبو جعفر "يزلقونك" بفتح المثناة مضارع زلَق بفتح اللام يزلق متعدياً، إذا نحاه عن مكانه.

وقرأه الباقون بضم المثناة وجاء { يكاد } بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل، وجاء فعل { سمعوا } ماضياً لوقوعه مع { لَمَّا } وللإِشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.

واللام في { ليزلقونك } لام الابتداء التي تدخل كثيراً في خبر { إن } المكسورة وهي أيضاً تفرق بين { إنْ } المخففة وبين (إنّ) النافية.

وضمير { إنه لمجنون } عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليسَ للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.

والمعنى: يقولون ذلك اعتلالاً لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلاً للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه،فلذلك أبطل الله قولهم: { إنه لمجنون } بقوله: { وما هو إلاّ ذكر للعالمين }، أي ما القرآن إلاّ ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.

والذِكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس.

فضمير { هو } عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينةُ السياق تُرجِع كلَّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس:

عُدْنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهمبالمسلمين وأحرَزوا ما جمَّعوا

أي لأحْرز الكفار ما جمَّعه المسلمون.

وفي قوله: { ويقولون إنه لمجنون }مع قوله في أول السورة { { ما أنت بنعمة ربّك بمجنون } [القلم: 2] محسن ردّ العجز على الصدر.

وقوله: { وما هو إلاّ ذكر للعالمين } إبطال لقولهم: { إنه لمجنون } لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكْر بطَلَ أن يكون مبلّغه مجنوناً. وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإِن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلاّ ذكر وما أنت إلاّ مُذكر.