التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
-القلم

التحرير والتنوير

تفريع على جملة { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } [القلم: 7] إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتَصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لِيناً ولكن يستأهلون إغلاظاً.

رُوي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانعَ بعضُهم بعضاً فنهاه الله عن إجابتهم لما وَدُّوا.

ومعنى { ودُّوا }: أحبوا.

وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلَع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله: { فلا تطع المكذبين }

وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.

فينتظم من هذا أن قوله { فلا تطع المكذبين } نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله: { { فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون } إلى قوله: { { بالمهتدين } [القلم: 5 ـــ 7] فلعلهم تحدثوا أو أوعَزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه { { إنه لمجنون } [القلم: 51] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحاً بينهم ويترك كلّ فريق فريقاً وما عبده.

والطاعة: قبول ما يُبتغَى عمله، ووقوع فعل { تطع } في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى: { { فلا تطع الكافرين وجَاهدهم به جهاداً كبيراً } [الفرقان: 52]، أي لا تلن لهم.

واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.

ومن هنا يتضح أن جملة { ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون } بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف.

وفعل { تدهن } مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها.

والفاء في { فيدهنون } للعطف، والتسبب عن جملة { لو تدهن } جواباً لمعنى التمني المدلول عليه بفعل { ودُّوا } بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار (أنْ) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره: فهم يدهنون. وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدماً على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإِدهان منهم لا منك، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى: { فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } [الجنّ: 13]، أي فهو لا يخاف بخساً ولا رهقاً.

وحرف { لو } يحتمل أن يكون شرطياً ويكونَ فعل { تدهن } شرطاً، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفاً ويكون التقدير: لو تدهن لحصل لهم ما يودون. ويحتمل أن يكون { لو } حرفاً مصدرياً على رأي طائفة من علماء العربية أن { لو } يأتي حرفاً مصدرياً مثل (أنْ) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير: ودوا إدهانك.

ومفعول { وَدُّوا } محذوف دل عليه { لو تدهن }، أو هو المصدر بناء على أن { لو } تقع حرفاً مصدرياً، وتقدم في قوله تعالى: { يوَدُّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة } في سورة البقرة (96). وقد يفيد موقع الفاء تعليلاً لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.