التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَاقَّةُ
١
مَا ٱلْحَآقَّةُ
٢
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ
٣
-الحاقة

التحرير والتنوير

{ الحاقة } صيغة فاعِل من: حقّ الشِيء إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون { الحاقة } وصفاً لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قُطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فَعْلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضَربة لاَزِب. فالحاقة إذْن بمعنى الحق كما يقال «مِن حاقِّ كذا»، أي من حقه.

وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي، أي حادثة تحق أو حَقٌّ يحق.

ويجوز أن يكون المراد بها لَقباً ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك «يوم القيامة» لأنه يوم محقق وقوعُه، كما قال تعالى: { { وتنذِر يوم الجمع لا ريب فيه } [الشورى: 7]، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها، قال تعالى { { ولا يُظلمون فتيلاً } [النساء: 49] وقال: { فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يَره } [الزلزلة: 7ــ 8].

وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإِيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.

فيجوز أيضاً أن تكون { الحاقة } وصفاً لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديداً بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرَّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفاً للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: { كذلك حَقَّت كلمة ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } [غافر: 6]، أو التي حقّت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله، قال تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين } [الصافات: 171ــ 174].

ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفاً ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: { واقترب الوعد الحق } [الأنبياء: 97]، أو وصفاً للقرآن كقوله: { { إن هذا لهو القصص الحق } [آل عمران: 62]، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: { { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [الجاثية: 29] وقال: { إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق } [الأحقاف: 30].

وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.

و { الحاقّة } مبتدأ و { مَا } مبتدأ ثان. و { الحاقّة } المذكورة ثانياً خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.

و { ما } اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدْري ما الحاقة؟ أي ما هي الحاقة، أيْ شيءٌ عظيم الحاقّةُ. وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبراً عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإِظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى: { { وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين } [الواقعة: 27].

وجملة { ومَا أدراك ما الحاقّة } يجوز أن تكون معترضة بين جملة { ما الحاقّة } وجملة { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } [الحاقة: 4]، والواو اعتراضية.

ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة { ما الحاقة }.

و { مَا } الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنَّى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقّة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يُتساءل عن فهمه.

والخطابُ في قوله: { وما أدراك } لغير معيَّن. والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كُنْهَهُ.

وتركيب «مَا أدراك كذا» مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من { ما } الاستفهامية وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلمَ وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو (دَرى) مفعولاً أول بسبب التعدية. وقد علق فعل { أدراك } عن نصب مفعولين بـ { ما } الاستفهامية الثانية في قوله: { مَا الحاقّة }. وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركْتُ الحاقّة أمراً عظيماً، ثم صار أدْركني فلان الحاقّة أمراً عظيماً.

و { ما } الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكارياً، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.

والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.

هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان.

و { مَا } الثالثة علقت فعل { أدراك } عن العمل في مفعولين.

وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.

واستعمال { ما أدراك } غير استعمال { ما يدريك } في قوله تعالى: { { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [الأحزاب: 63] وقوله: { وما يدريك لعل الساعة قريب } في سورة الشورى (17).

روي عن ابن عباس: "كل شيء من القرآن من قوله: { ما أدراك } فقد أدرَاه وكل شيء من قوله: { وما يدريك } فقد طُوي عنه». وقد روي هذا أيضاً عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بن سلاّم فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول { ما أدراك } محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول { ما يدريك } غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإِنكار وهو في معنى نفي الدراية.

وقال الراغب: كل موضع ذُكر في القرآن { وما أدراك } فقد عقب ببيانه نحو { وما أدراك ماهيه نار حامية } [القارعة: 10 ــ 11]، { وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } [القدر: 2 ــ 3]، { { ثم ما أدراك ما يوم الدين يومَ لا تملك نفس لنفس شيئاً } [الانفطار: 18 ــ 19]، { وما أدراك ما الحاقّة كذبت ثمود وعاد بالقارعة } [الحاقة: 3 ــ 4]، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.

ولم أرَ من اللغويين من وفَّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلاً.