التفاسير

< >
عرض

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
٣٠
ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ
٣١
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ
٣٢
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ
٣٣
وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
٣٤
فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ
٣٥
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
٣٦
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ
٣٧
-الحاقة

التحرير والتنوير

{ خذوه } مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير { { فيقول يا ليتني لم أَوْت كتابيه } [الحاقة: 25]، والتقدير: يُقال: خذوه.

ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسَوق أهلِ الحساب إلى ما أُعد لهم.

والأخذ: الإِمساك باليد.

وغُلُّوه: أمر من غلّه إذا وضعه في الغُل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد، ولم يسمع إلاّ ثلاثياً ولعل قياسه أن يقال: غَلَّله بلامين لأن الغُل مضاعف اللام، فحقه أن يكون مثل عَمَّم، إذا جعل له عمامة، وأزَّر، إذا ألبسه إزاراً، ودرَّع الجاريةَ، إذا ألبسها الدِرع، فلعلهم قالوا: غَلَّه تخفيفاً. وعطف بفاء التعقيب لإِفادة الإِسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه.

و { ثم } في قوله: { ثم الجحيم صلُّوه } للتراخي الرتبي لأن مضمون الجملة المعطوفة بها أشد في العقاب من أخذه ووضعه في الأغلال.

وصلَّى: مضاعف تضعيف تعدية لأن صَلِي النار معناه أصابه حرقها أو تدفَأ بها، فإذا عدّي قيل: أصلاه ناراً، وصلاَّه ناراً.

و { ثم } من قوله: { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً } أعظم من مضمون { فغلوه }.

ومضمون { فاسلكوه } دل على إدخاله الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم.

ومعنى { اسلكوه }: اجعلوه سالِكاً، أي داخلاً في السلسلة وذلك بأن تَلفَّ عليه السلسلة فيكون في وسطها، ويقال: سلَكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبَّلاً في أغلاله.

وتقديم { الجحيمَ } على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم { في سلسلة } على عامله.

واقتران فعل { اسلكوه } بالفاء إمَّا لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل { فَغلّوه }، وإما للايذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالباً كأنه قيل: مهما فعلتم به شيئاً فاسلكوه في سلسلة، أو مهما يكن شيء فاسلكوه.

والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحثُّ على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف، ونظيره قوله تعالى: { وربَّك فكبّر وثِيابَك فطهّر والرِّجز فاهجر } [المدثر: 3ــ 5]، وتقدم عند قوله تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } في سورة [يونس: 58].

والسلسلة: اسم لمجموع حَلَقٍ من حديد داخلٍ بعضُ تلك الحَلَق في بعض تجعل لِوثاق شخص كي لا يزول من مكانه، وتقدم في قوله تعالى: { { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } في سورة غافر (71).

وجملة { ذرعها سبعون ذراعاً } صفة { سِلْسلة } وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلَّقِهِ للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة، وليست الجملة مما خوطب الملائكة الموكلون بسوْق المجرمين إلى العذاب، ولذلك فعَدَدُ السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى: { { إِنْ تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [التوبة: 80].

والذَّرع: كيلُ طولِ الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإِنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع، والأصبَع، والأنملة، والقَدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشِبْر، والفِتْر، والرتب (بفتح الراء والتاء)، والعَتَب، والبُصْم، والخُطوة.

وجملة { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضّ على طعام المسكين } في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم.

ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفراناً بعظيم فكان جزاء وفاقاً.

والحض على الشيء: أن يَطْلُبَ من أحد فعلَ شيء ويُلِحّ في ذلك الطلب.

ونفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى أنه لا يُطعم المسكين من ماله لأنه إذا كان لا يأمر غيره بإطعام المسكين فهو لا يطعمه من ماله، فالمعنى لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه، وقد كان أهل الجاهلية يطعمون في الولائم، والميسر، والأضيَاف، والتحابُب، رياء وسُمعة. ولا يطعمون الفقير إلاّ قليلاً منهم، وقد جُعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشحّ عنهم بماله، كما جُعل الحرص على إطعام الضيف كناية عن الكرم في قول زينب بنت الطَّثَرِيَّةِ ترثي أخاها يزيدَ:

إذا نَزل الأضياف كان عَذَوَّراًعلى الحَي حتى تَستقل مَراجِلُه

تريد أنه يحضر الحي ويستعجلهم على نصف القدور للأضياف حتى توضع قدور الحي على الأثافي ويَشرعوا في الطبخ، والعَذوَّر بعين مهملة وذال معجمة كعملَّس: الشكِس الخُلق.

إلاّ أن كناية ما في الآية عن البخل أقوى من كناية ما في البيت عن الكرم لأن الملازمة في الآية حاصلة بطريق الأولوية بخلاف البيت.

وإذ قد جُعل عدم حضه على طعام المسكين جزء علة لشدة عذابه، علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم في الأموال وهو الحق المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها.

وقوله: { فليس له اليوم ههنا حميم } من تمام الكلام الذي ابتدىء بقوله { خذوه }، وتفريع عليه.

والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعاً يدفع عنه بشفاعة، وتنديمٌ له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب. وهذا وجه تقييد نفي الحميم بـ { اليوم } تعريضاً بأن أحِمَّاءهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى: { { ثم نقول للذين أشركوا أيْن شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } [الأنعام: 22] وقوله عنهم { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } [الأعراف: 53] وغير ذلك مما تفوق في آي القرآن.

فقوله { له } هو خبر { ليس } لأن المجرور بلام الاختصاص هو محط الأخبار دون ظرف المكان. وقوله: { ههنا } ظرف متعلق بالكون المنوي في الخبر بحرف الجر. وهذا أولى من جعل { ههنا } خبراً عن { ليس } وجعل { له } صفةً لـ { حميم } إذ لا حاجة لهذا الوصف.

والحَميم: القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته.

{ ولا طعام } عطف على { حميم }.

والغِسلين: بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله فهو عَلَم على ذلك مثل سِجين، وسرقين، وعِرنين، فقيل إنه فِعْلِين من الغَسل لأنه سَالَ من الأبدان فكأنه غُسل عنها. ولا مِوجب لبيان اشتقاقه.

و { الخاطئون }: أصحاب الخطايا يقال: خطِىء إذا أذنب.

والمعنى: لا يأكله إلاّ هو وأمثاله من الخاطئين.

وتعريف { الخاطئون } للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشدّ الخِطأ وهو الإِشراك.

وقرأ الجمهور { الخاطئون } بإظهار الهمزة، وقرأ أبو جعفر { الخاطُون } بضم الطاء بعدها واو على حذف الهمزة تخفيفاً بعد إبدالها ياء تخفيفاً. وقال الطيبي: قرأ حمزة عند الوقف الخاطيُون بإبدال الهمزة ياء ولم يذكره عنه غير الطيبي.