التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ
٤٤
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ
٤٥
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ
٤٦
فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
٤٧
-الحاقة

التحرير والتنوير

هذه الجملة عطف على جملة { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } [الحاقة: 38ــ 39] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومَن جاء به وقال: إنه وحي من الله تعالى.

فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القَسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخَطابي.

وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا، لما أقررناه على ذلك، ولعجّلنا بإهلاكه. فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن { لو } تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها.

فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:

أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله.

وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم { افتراه } [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى { أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون } [الطور: 33] فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك.

ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: { قال الذين لا يرجون لقاءَنا إئتِ بقرآنٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه } [يونس: 15]. وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك.

والتقول: نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغةَ الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولاً لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عُدي بـ (على).

والمعنى: لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولاً لم نقله إلخ.

و { بعضَ } اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به لـ { تقوَّل }.

و { الأقاويل }: جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضاً من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلاً من أقوالٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئاً قليلاً من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره.

ومعنى { لأخذنا منه باليمين } لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية.

واليمين: اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملاً من الشِمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة.

وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم } في سورة البقرة (224) وقوله: { { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } في سورة الأعراف (17) وقوله: { ولا تخطُّه بيمينك } في سورة العنكبوت (48).

وقال أبو الغُول الطَهَوِي:

فدَت نفسي وما ملكتْ يمينيفوارسَ صدَّقوا فيهم ظنوني

والمعنى: لأخذناه أخذاً عاجلاً فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتَصَرْ على نحو: لأهْلكناه.

و { منه } متعلق بـ (أخذنا) تعلق المفعول بعامله. و (مِن) زائدة في الإِثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح. وقد بينته عند قوله تعالى: { فأخرجنا منه خَضِراً نُخرج منه حباً متراكباً ومن النخل } [الأنعام: 99]، فإن { النخل } معطوف على { خَضِرا } بزيادة { مِن } ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإِعراب إلاّ بكلفة، وفائدة (من) الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول: نأخذ بعضَه.

و { الوتين }: عِرق معلَّق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له: نَهرُ الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور.

فقطع الوتين من أحوَال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يُفرض تَقوُّله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها.

ولم أقف على أن العرب كانوا يكنّون عن الإِهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.

و { منه } صفة للوتين، أو متعلق بـ (قطعنا)، أي أزلناه منه.

وبينَ { منه } الأولى و { منه } الثانية محسِّن الجناس.

وأما موقع تفريع قوله: { فما منكم من أحد عنه حاجزين } فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقوُّل من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاماً لا يسوءَهم، ففي تلك الحالة من أحوال التَقوُّل لو أخذنَا منه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يَظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله: { { وإن كادُوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً إذنْ لأذقناك ضِعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } [الإسراء: 73 ــــ 75].

والخطاب في قوله: { منكم } للمشركين.

وإنما أخبر عن { أحد } وهو مفرد بـ { حاجزين } جمعاً لأن { أحد } هنا وإن كان لفظه مفرداً فهو في معنى الجمع لأن { أحد } إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلاّ في سياق النفي مثل عَريب، ودَيّار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلاّ منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: { لا نُفرق بين أحد من رسله } [البقرة: 285] وقال: { لَسْتُنَّ كأحدٍ من النساء } [الأحزاب: 32].

والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.

والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه. والضمير عائد إلى { رسول كريم } [الحاقة: 40].

و { مِن } في قوله: { مِن أحد } مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم. وذِكر { منكم } مع { عنه } تجنيس محرّف.

وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحداً يدعي أن الله أوحى إليه كلاماً يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.

فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قولٍ أُوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليَمن، ومُسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليَمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثْلهما من ادعَوا النبوءة في الإِسلام مثل (بَابك ومازيّار).

وقال الفخر: «قيل: اليمين بمعنى القُوة والقدرة، والمعنى: لأخذنا منه اليمينَ، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة. واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك: إِما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذٍ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدْماً لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب» اهـ. فركّب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقوِّل لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تَبعه فيه مَن بعده فيما رأينا. وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر.