التفاسير

< >
عرض

وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
-الأعراف

التحرير والتنوير

{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاَْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا }.

عطف على { فانتقمنا منهم } [الأعراف: 136]. والمعنى: فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة.

وتقدم ءانفاً الكلام على معنى { أوْرثنا } عند قوله تعالى: { { أوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } [الأعراف: 100] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم. وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه.

والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى: { { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } [الشعراء: 59]، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين: أولاهما: الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده.

الثانية: التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم.

ومعنى يُستضعفون: يستعْبَدون ويهانون، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب، أو للمبالغة كما في استجاب.

والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة.

و{ الأرض } أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدىء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك.

و{ التي باركنا فيها } صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها؛ لأن ما صدقيْهما متحدان، أي قدرنا لها البركة، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى: { لَفَتَحْنا عليهم بركات } في هذه السورة (96). أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضاً هي خير من أرض مصر.

عطف على جملة: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } الخ... والمقصود من هذا الخبر هو قوله: { بما صبروا } تنويهاً بفضيلة الصبر وحسن عاقبته، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها، فتتنزل من جملة: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف، فكان مقتضى العطف هو قوله { بما صبروا }.

وكلمة: هي القول، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله: { { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } [الأعراف: 129] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة، فتمام الكلمة تحقق وعدها، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله: { { وكلمته ألقاها إلى مريم } [النساء: 171].

وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى { { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [المائدة: 21] وقد تقدم عند قوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً } في سورة الأنعام (115).

و{ الحسنى }: صفة لــــ { كلمة } وهي صفة تشريف كما يقال: الأسماء الحسنى، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه.

والخطاب في قوله: { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمح في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين، وتلك سنتُه وصنعه، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر.

وعدي فعل التمام (بعلى) للإشارة إلى تضمين { تمت } معنى الإنعام، أو معنى حقت.

وباء { بما صبروا } للسببية، و(ما) مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإلٰه وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل.

والتدمير: التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامراً للتعدية متصرف من الدمار ــــ بفتح الدال ــــ وهو مصدر قاصر، يقال دَمَر القومُ ــــ بفتح الميم ــــ يدمُرون ــــ بضم الميم ــــ دَمارا، إذا هلكوا جميعاً، فهم دامرون. والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان.

و{ ما كان يصنع فرعون }: ما شاده من المصانع، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب.

و{ يَعْرشون } ينشئون من الجنات ذات العرايش. والعريش: ما يُرفع من دوالي الكروم، ويطلق أيضاً على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشاً ودهناً، وقد تقدم في قوله تعالى: { { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } في سورة الأنعام (141) وفعله عَرَش من بابي ضرَب ونصَرَ وبالأول قرأ الجمهور، وقرأ بالثاني ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال، أو بالزلزال، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم، ويجوز أن يكون يعرشون } بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل { دمرنا }، شبه البناء المرفوع بالعرش. ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحاً للاستعارة.

وفعل { كان } في الصلتين دال على أن ذلك دأبُه وهجيرَاه، أي ما عني به من الصنائع والجنات. وصيغة المضارع في الخبرين عن (كان) للدلالة على التجدد والتكرر.