التفاسير

< >
عرض

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
٣٧
قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ
٣٨
وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٣٩
-الأعراف

التحرير والتنوير

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ }.

الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال، التي أُبهم أصحابُها، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله: { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب، فتفرّع على ذلك: أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه.

ولك أن تجعل جملة: { فمن أظلم ممن افترى } [الأنعام: 144] إلخ معترضة بين جملة: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [الأعراف: 36] وجملة: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدّم الكلام على تركيب: { من أظلم ممن } عند قوله تعالى: { { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } في سورة البقرة (114)، وأنّ الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم.

والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى: { { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود (103). ولهذه الآية اتّصال بآية: { { وكم من قرية أهلكناها } [الأعراف: 4] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله.

و(من) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً. و(مَنْ) الثّانية موصولة، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين: جهة إبطال ما يدلّ على مراده، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله.

والمراد بهذا الفريق: هم المشركون من العرب، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش، كما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [الأعراف: 28].

و(أو) ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين: فريق افتروا على الله الكذب، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، وأبي كَبْشة، ومن جاء بعدهما، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية، وفريق كذّبوا بآياتتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين، من أهل مكّة وما حولها، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أموراً من الضّلالات، وكذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلماً، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس، وهذا كقوله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله } [الأنعام: 93]، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة.

ولك أن تجعل (أو) بمعنى الواو، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب، ويكون صادقاً على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك.

شيء باسم الإشارة في قوله: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء.

وجملة { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } الآية، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته.

ويجوز أن تكون جملة: { أولئك ينالهم نصيبهم } عطف بيان لجملة: { { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [الأعراف: 36] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.

وتكملة هذه الجملة هي جملة: { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } الآية كما سيأتي.

ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات، وتقول نُلْتُ ــــ بضمّ النّون ــــ من نال يُنول، وتقول نِلْت ــــ بكسر النّون ــــ من نال يَنِيل، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده، ونوّله أعطاهُ فنال، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً، بل بالعكس: الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: { { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } [الحج: 37] ــــ وقوله ــــ { { سينالهم غضب من ربهم } [الأعراف: 152]، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه، كما يطلب العدوّ عدوّه، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة:

وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُهكأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُه

وقولهم: «عرضتُ النّاقة على الحوض».

والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } في سورة البقرة (202)، وقوله: { { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } في سورة النساء (7).

والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب، فإن كان الكتاب مستعملاً حقيقة فهو القرآن، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده، مثل قوله تعالى آنفاً: { { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [الأعراف: 36]، وإن كان الكتاب مجازاً في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره، على حدّ قوله: { { لكل أجل كتاب } [الرعد: 38] أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب، وأنّه لا يغفر لهم، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفاً بقوله: { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [الأعراف: 34]. وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله: { فمن أظلم } ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلاً في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في (حتّى). وذلك غير ملتزَم، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره.

والمعنى: إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم.

وجملة: { حتى إذا جاءتهم رسلنا } تفصيل لمضمون جملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } فالوقت الذي أفاده قوله: { إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا.

و{ حتى } ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة، فالمعنى: فــــ { إذا جاءتهم رسلنا } إلخ، و(حَتّى) الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها، قال الرضي؛ قال المصنف: وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي، جبراً لما فات من الاتّصال اللّفظي، قال عَمرو بن شَأس:

نذود الملوك عنكُمُ وتذودُناولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعا

وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى: { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة } في سورة الأنعام (31) و(حتّى) الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام، وهذا الكلام الواقع هنا بعد (حتّى) فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم، من الوعيد المتعارف، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه. والرّسُل هم الملائكة قال تعالى: { { قل يتوفاكم ملك الموت } [السجدة: 11] ــــ وقال ــــ { { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } [الأنفال: 50].

وجملة: { يتوفونهم } في موضع الحال من { رُسلنا } وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله: { ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [الأعراف: 61، 62] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم.

والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: { { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } في سورة آل عمران (55) وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف (حتى) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.

ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة: رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم. وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.

والاستفهام في قوله: { أين ما كنتم تدعون من دون الله } مستعمل في التّهكّم والتّأييس.

و(مَا) الواقعة بعد أين موصولة، يعني: أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم، فقد جاء في حديث «الموطّأ»: أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله. وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.

وقولهم: { ضلّوا عنّا } أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم: { { والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام: 23] ولذلك قال هنا: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }، وقال في الآخرى: { { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } [الأنعام: 24].

والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم.

فأمّا قوله: { قال ادخلوا في أمم } فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السّابقة، لأنّه جاء بصيغة الإفراد، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعيّن أنّ ضمير (قال) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.

ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم. وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول، بصيغه الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.

ويجوز أن تكون جملة: { قال ادخلوا في أمم } في موضع عطف البيان لجملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي: قال الله فيما كتبه لهم { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم } [الأعراف: 34] أي أمثالكم، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر.

والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله: { ولكل أمة أجل }.

و(في) من قوله: { في أمم } للظّرفية المجازيّة، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم، وهي بمعنى (مع) في تفسير المعنى، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظَّر (في) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة:

إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُوكاً ففي آخرينَ قد أُفِكُوا

ومعنى: { قد خلت } قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى: { تلك أمة قد خلت } في سورة البقرة (134)، يعني: أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله: { { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [إبراهيم: 45] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء.

جملة: { كلما دخلت أمة لعنت أختها } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لوصف أحوالهم في النّار، وتفظيعها للسّامع، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة { حتى إذا اداركوا } داخلة في حيز الاستيناف.

ويجوز أن تكون جملة: { كلما دخلت أمة } معترضة بين جملة: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } وبين جملة: { حتى إذا اداركوا فيها } إلخ. على أن تكون جملة { حتى إذا اداركوا } مرتبطة بجملة { ادخلوا في أمم } بتقدير محذوف تقديره: فيدخلون حتّى إذا اداركوا.

و(ما) في قوله: { كلّما } ظرفية مصدريّة، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها. والتّقدير: لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم، فتفيد عموم الأزمنة.

و{ أمّة } نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة، فتفيد العموم، أي كلّ أمة دخلت، وكذلك: { أختَها } نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضاً، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها، والمراد بأختها المماثِلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار، كما يقال: هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب، فيقال: بَكْر وأختها تغلب، ومنه قول أبي الطبيّب:

وكطَسْم وأُخْتِها في البعاد

يريد: كَطَسم وجَدِيس.

والمقام يعيّن جهة الأخوّة، وسبَبُ اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب، والأمر بإدخالهم النّار، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيُّنه، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا، بوجه من وجوه العلم، أنّهم أُدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه.

وقيل: المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها.

وأفادت { كلّما } لما فيها من معنى التّوقيت: أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير: لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تَلْعن أختها، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدَها الثّانيةَ، ومن بعدها بطريق الأوْلى، أو ترُدّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة. والمعنى: كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله: { لعنت أختها }.

و(حتّى) في قوله: { حتى إذا اداركوا } ابتدائيّة، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن (حتّى) الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها، فيجوز أن تكون مترتِبَة في المعنى على مضمون قوله: { قال أدخلوا في أمم قد خلت } إلخ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله: { كلما دخلت أمة لعنت أختها }.

و{ اداركوا } أصله تَداركوا فقلبت التّاء دَالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف، وسُكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن، وهذا قلْب ليس بمتعيّن، وإنّما هو مستحسن، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازْداد وادّكر: ومعناه: أدرك بعضهم بعضاً، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل، والمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النّار. وقوله: { جميعاً } حال من ضمير { اداركوا } لتحقيق استيعاب الاجتماع، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها.

والمراد: بــــ { أخراهم }: الآخِرة في الرّتبة، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورَعاع، والمراد بالأولى: الأولى في المرتبة والاعتبار، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضاً، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفَين محذوفين، أي أخرى الطّوائف لأولاهم، وقيل: أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان، وبالأولى أسلافهم، لأنّهم يقولون: { { إنّا وجدنا آباءنا على أمة } [الزخرف: 23]. وهذا لا يلائم ما يأتي بعده.

واللاّم في: { لأولاَهم } لام العلّة، وليست اللاّم التي يتعدّى بها فعل القَول، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجَّه إلى الله تعالى، بصريح قولهم: { ربنا هؤلاء أضلونا } إلخ، لا إلى الطّائفة الأولى، فهي كاللاّم في قوله تعالى: { { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [الأحقاف: 11].

والضعف ــــ بكسر الضّاد ــــ المِثْل لمقدار الشّيء، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجودَ معنى آخر، كالزّوج والنِّصف، ويختص بالمقدار والعدد، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأيمّة اللّغة، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار، مثل العذاب في قوله تعالى: { { يُضَاعَفْ له العذاب يوم القيامة } [الفرقان: 69] ــــ وقوله ــــ { { يضاعف لها العذاب ضعفين } [الأحزاب: 30] أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا { فآتهم عذاباً ضعفا } أي أعطهم عذاباً هو ضِعف عذاببٍ آخر، فعُلم أنّه، آتاهم عذاباً، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مِثْلٌ لعذاببٍ حصل قبله إذ لا تقول: أكرمت فلان ضِعفاً، إلاّ إذا كان إكرامك في مقابلة إكراممٍ آخر، فأنت تزيده، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم، كما قال تعالى في الآية الآخرى: { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } [سبأ: 31].

وفعل: { قال } حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات، والتّنوينُ في قوله: { لكلّ } عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتّقدير: لكلّ أمّة، أو لكلّ طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى، يزيدونهم طغياناً وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه.

والاستدراك في قوله: { ولكن لا تعلمون } لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب: أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا، والمعنى: أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال. ومفعول { تعلمون } محذوف دلّ عليه قوله: { لكلٍ ضِعف }، والتّقدير: لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم.

وقرأ الجمهور: { لا تَعلمون } ــــ بتاء الخطاب ــــ على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم ــــ بياء الغيبة ــــ فيكون بمنزلة التّذييل خطاباً لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفاً فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين.

وعُطفتْ جملة: { وقالت أولاهم لأخراهم } على جملة: { قالت آخراهم لأولاهم } لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة.

والفاء في قولهم: { فما كان لكم علينا من فضل } فاء فصيحة، مرتبة على قول الله تعالى { لكل ضعف } حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب. و(مَا) نافية. و(مِنْ) زائدة لتأكيد نفي الفضل، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله: { لكل ضعف } سبب للعلم بأن لا مزية لأخراهم عليهم في تعذيبهم عذاباً أقل من عذابهم فالتقدير: فإذا كان لكل ضعف فما كان لكم في فضل فالمراد بالفضل الزيادة من العذاب.

وقوله: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يجوز أن يكون من كلام أولاهم: عَطَفوا قولهم: { ذوقوا العذاب } على قولهم: { فما كان لكم علينا من فضل } بفاء العطف الدّالة على التّرتب. فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً.

وصيغة الأمر في قولهم: { فذوقوا } مستعملة في الإهانة والتشفّي.

والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس، وقد تقدّم نظائره غير مرّة.

والباء سببيّة، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب.

يجوز أن يكون قوله: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } من كلام الله تعالى، مخاطباً به كلا الفريقين، فيكون عطفاً على قوله: { لكل ضعف ولكن لا تعلمون } ويكون قوله: { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله: { فذوقوا } للتكوين والإهانة.

وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يَزِجّ بهم في الضّلالة، ويحسِّن لهم هواهم، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم، ولا يبلغهم النّصيحة، وفي الحديث: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته" .