التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ
٨
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ
٩
وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً
١٠
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
١١
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
١٢
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ
١٣
وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
١٤
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
-المعارج

التحرير والتنوير

يجوز أن يتعلق { يوم تكون السماء } بفعل { تعرج } [المعارج: 4]، وأن يتعلق بـ { يَوَدُّ المجرم } قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله: { يوم تكون السماء كالمهل } ابتداء كلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة { ولا يسأل حميم حميماً } لأن عدم المساءلة مسبب عن شدة الهَول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المَوَل لو يفتدي من ذلك العذاب.

و { المُهل }: دُردِيّ الزيتِ.

والمعنى: تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمان (37) { فكانت وردة كالدِهان } .

والعِهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقاً، وقيل المصبوغ ألواناً مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير:

كان فُتات العِهن في كل منزِلٍنَزلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحَطَّم

والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر. والعهنة: شجر بالبادية لها ورد أحمر.

ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة (5) { وتكون الجبال كالعهن المنفوشِ } فإيثار العهن بالذكر لإِكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: { ومن الجبال جُدد بيضٌ وحُمْرٌ مختلف ألوانها } [فاطر: 27]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصيرِ إلى عالم الآخرة.

ومعنى { ولا يَسأل حميم حميماً } لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق { يسأل } لظهوره من المقام ومن قوله: { يبصِّرونهم } أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميماً، قال كعب بن زهير:

وقال كل خليل كنتُ ءآمُلهلا أُلْهِيَنَّك إِني عنك مشغول

والحميم: الخليل الصديق.

وقرأ الجمهور بفتح ياء { يَسأل } على البناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول. فالمعنى: لا يُسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.

وموقع { يبصّرونهم } الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحِمَّاء لا يرى بعضهم بعضاً يومئذٍ لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذاباً فوق العذاب.

ويجوز أن تكون جملة { يبصرونهم } في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميماً في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له: انظر مَاذا يقاسي فلان. و{ يبصرونهم } مضارع بَصَّره بالأمر إذا جعله مبصراً له، أي ناظراً فأصله: يبصَّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.

والضميران راجعان إلى { حميم } المرفوع وإلى { حميماً } المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظراً إلى عموم { حمِيمٌ } و { حميماً } في سياق النفي.

و { يودّ }: يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب. وإما بكلام يصدر منه نظير قوله: { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [النبأ: 40]، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذٍ فيقول: أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون ذلك فضيحة له يومئذٍ بين أهله.

و { المجرم }: الذي أتى الجُرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.

و{ يومئذٍ } هو { يوم تكون السماء كالمهل } فإن كان قوله: { يوم تكون السماء } متعلقاً بـ { يودّ } فقوله: { يومئذٍ } تأكيد لـ { يوم تكون السماء كالمهل }، وإن كان متعلقاً بقوله: { تعرج الملائكة } [المعارج: 4] فقوله: { يومئذٍ } إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.

و { لو } مصدرية فما بعدها في حكم المفعول لـ { يود }، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.

وقرأ الجمهور { يومئذٍ } بكسر ميم (يوم) مجروراً بإضافة (عذاب الله). وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإِضافة (يوم) إلى (إذ)، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.

والافتداء: إعطاء الفِداء، وهو ما يعطى عوضاً لإِنقاذٍ من تبعةٍ، ومنه قوله تعالى: { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } في البقرة (85) وقوله: ولو افتدى به في آل عمران (91)، والمعنى: لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.

ومعنى (مِن) الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يَتخلص و { صاحبِته }: زوجِهِ.

والفصيلة: الأقرباء الأدْنَوْن من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول مِنهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والأمهاتِ قال ابن العربي: قال أشهب: سألتُ مالكاً عن قول الله تعالى: { وفصيلته التي تؤويه } فقال هي أمه اهـ، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.

وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.

ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصداً للإِيجاز.

والايواء: الضم والانحياز. قال تعالى: { ءاوَى إليه أخاه } [يوسف: 69] وقال: { { سآوي إلى جبل } [هود: 43].

و { التي تؤويه }: إن كانت القبيلةَ، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئاً يومئذٍ.

وإن كانت الأمَّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [الروم: 48] أي يودّ لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.

{ ومن في الأرض جميعاً } عطف على { بنِيه }، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعزّ عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة في استبقائه على نحو قوله تعالى: { فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به } [آل عمران: 91].

و { مَن } الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.

و { ثم } في قوله: { ثم ينجيه } للتراخي الرتبي، أي يودّ بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإِنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله: { ينجيه } عائد إلى الافتداء المفهوم من { يفتدي } على نحو قوله تعالى: { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8].

والمعطوف بـ { ثم } هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى: { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكُونون سواء } [النساء: 89] وقوله: { ودُّوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9]، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه بـ { ثم } للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.

ومتعلِّق { ينجيه } محذوف يدل عليه قوله: { من عذاب يومئذٍ }.

و { كَلاَّ } حرف ردع وإبطال لكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإِبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو لإِبطال ما يتفوه به من تمنّي ذلك. قال تعالى: { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [النبأ: 40]، ألا ترى أنه عبر عن قوله ذلك بالودادة، في قوله تعالى: { يومئذٍ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض } [النساء: 42] أي يصيرون من ترابها.

فالتقدير: يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء.

وجملة { إنها لظَى } استئناف بياني ناشىء عما أفاده حرف { كلا } من الإِبطال. وضمير { إنها } عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى. ولما كان { لظى } مقترناً بألف التأنيث أنّث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف. والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شَواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله: { تدعو من أدبر وتولى وجَمع فأوعى، }أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلاّ بجمع المال.

فحرف (إنَّ) للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، لا إلى الإِخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس ذلك بمحل التردد. و { لظى } خبر (إن).

ويجوز أن يكون ضمير { إنها } ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي إن قصتك وشأنك لَظى، فتكون { لظى } مبتدأ.

وقرأ الجمهور { نزّاعةٌ } بالرفع فهو خبر ثان عن (إنَّ) إن جعل الضمير ضميراً عائداً إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن { لظى } إن جعل الضمير ضمير القصة وجُعل { لظى } مبتدأ.

وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة. والتعريض هو هو، وحرف (إنّ) إما للتوكيد متوجهاً إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأَخبار المهتم بها.

و { لَظى }: علَم منقول من اسم اللهب، جعل علَماً لـ «جهنم»، وألفه ألف تأنيث، وأصله: لظى بوزن فتًى منوناً اسم جنس للهب النار. فنقل اسم الجنس إلى جعله عَلَماً على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيهاً بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.

والعرب قد يدخلون تغييراً على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شُمْس بضم الشين منقولاً من شَمْس بفتح الشين. كما قال ابن جني في شرح قول تأبط شراً:

إني لمهد من ثنائي فقاصدٌبه لابنِ عمِّ الصِدِق شُمْسِ بنِ مالك

وليس من العلَم بالغلبة إذ ليس معرفاً ولا مضافاً، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعاً من الصرف فلا تقول: لظًى بالتنوين إلاّ إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول: اللَّظَى إلاّ إذا أردت لهباً معيناً، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.

والنّزاعة: مبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.

والشوى: اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غيرُ الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكل أحد من شوى، وقيل الشواة: جلْدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.

وجملة { تدعو } إما خبر ثان حسب قراءة { نزّاعة } بالرفع وإمّا حال على القراءتين. والدعاء في قوله: { تدعو } يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظّى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدُبة، ورُمز إلى ذلك بـ { تدعو }وذلك على طريقة التهكم.

ويكون { من أدبر وتولى وجمع فأوعى } قرينةً، أو تجريداً، أي من أدبر وتولى عن الإِيمان بالله. وفيه الطباق لأن الإِدبار والتولي يضادَّانِ الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون (تدعوا) مشتقاً من الدُعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدَعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:

أمسى بوَهْبَيْنِ مُخْتَاراً لِمَرْتَعهمن ذي الفوارس تدعُو أنفَه الرِّبَبُ

الرِّبَب بكسر الراء وبموحدتين: جمع رِبَّة بكسر الراء وتشديد الموحدة: نبات ينبت في الصيف أخضرُ.

ويجوز أن يكون { تدعوا } مستعملاً حقيقة، و «الذين يَدْعون»: هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسنادُ الدعاء إلى جهنم إسناداً مجازياً لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعو حقيقة بأن يخلُق الله فيها أصواتاً تنادي الذين تولوا أن يَرِدوا عليها فتلتهمهم.

و { من أدبر وتولى وجمع فأوعى } جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتَدوا من عذاب يومئذٍ. وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإِسلام.

وهي ثلاثة: الإِدبار والإِعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم.

والإِدبار: ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر، فأدبر: جعل شيئاً وراءه بأن لا يعرج عليه أصلاً أو بأن يقبل عليه ثم يفارقَه.

والتولّي: الإِدبار عن شيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الوَلاية وهي الملازمة قال تعالى: { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [البقرة: 144]، ثم قالوا: ولَّى عنه، أرادوا اتخذ غيره ولياً، أي ترك وَلايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا: رَغب فيه ورغب عنه، فصار «ولي» بمعنى: أدبر وأعرض، قال تعالى: { فأعْرِض عمن تولَّى عن ذِكرنا } [النجم: 29] أي عامِلْه بالإِعراض عنه.

ففي التولي معنى إيثار غير المتولَّى عنه، ولذلك يكون بين التولّي والإِدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عُطف و { تولَّى } على { أدبر } أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإِدبار مراداً به إدبارَ غير تَول، أي إدباراً من أول وهلة، ويكون التولي مراداً به الإِعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإِدبار مستعاراً لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حال الذين قال الله فيهم: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن } [فصلت: 26]، والتولي مستعار للإِعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [الأنفال: 31] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.

والمقصود من ذكرهما معاً تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلِّق { أدبر وتولى } متّحداً يتنازعه كلا الفعلين، ويقدر بنحو: عن الحق، وفي «الكشاف»: أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحداً.

ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلِّقٌ هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي: أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإِيمان من أصله، وأعرض عن طاعة الرسول بعد سماع دعوته. وعن قتادة عكسه: أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وتبعه الفخر والنيسابوري.

والجمع والإِيعاء في قوله: { وجمع فأوعى } مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتب الثاني على الأول أن مفعول { جمع } المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يُجعل في وعاء.

والوعاء: الظرف، أي جمع المال فكنزه ولم ينفع به المحَاويج، ومنه جاء فعل { أوعى } إذا شحّ. وفي الحديث: "ولا تُوعي فيُوعَى عليك" .

وفي قوله: { جمَع } إشارة إلى الحرص، وفي قوله: { فأوعى } إشارة إلى طول الأمل. وعن قتادة { جمع فأوعى } كان جَمُوعاً للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يُقدَّر لـ { جمع } مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث. وعليه يكون { فأوعى } مستعاراً لملازمته مَا فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنَة لا يفرط فيها.