التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
٣٩
فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ
٤٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٤١
-المعارج

التحرير والتنوير

كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاً { إنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً } [المعارج: 6، 7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } [الواقعة: 62] فالخبر بقوله: { إنّا خلقناهم مما يعلمون } مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم.

فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً.

والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.

فما صْدَقُ (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر.

وعُدِل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } [الإنسان: 2] وقال: { أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } [يس: 77، 78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: { مما يعلمون } توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون } [الواقعة: 62]. وكان في قوله تعالى: { مما يعلمون } إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني { مما لا يعلمون } [يس: 36] كما قال في الآية الأخرى { { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [يس: 36] وقال: { وننشئكم في ما لا تعلمون } [الواقعة: 61] فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه.

ومجيء { إنا خلقناهم } موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: { فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم } مفرعاً على قوله: { إنا خلقناهم مما يعلمون } والتقدير: فإنا لقادرون الآية.

وجملة (لا أقسم برب المشارق) الخ معترضة بين الفاء وما عطفته.

والقَسَم بالله بعنوان ربوبيته المشارقَ والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.

وجمع { المشارق والمغارب } باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسَم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن.

وفي إيثار { المشارق والمغارب } بالقسم بربها رَعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإِحياءِ بعد الموت.

وتقدم القول في دخول حرف النفي مع (لا أقسم) عند قوله: { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } في سورة الحاقة (38، 39)، وقوله: { فلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة (75).

وقوله: { على أن نبدل خيراً منهم } يحتمل معنيين: أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيراً منهم، أي نبدل ذواتهم خلقاً خيراً من خلْقهم الذي هم عليه اليوم. والخيرية في الإِتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقاً أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلْق الأول مناسباً لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون { نُبدِّلَ } مضمناً معنى: نعوّض، ويكون المفعول الأول لـ { نبدل } ضميراً مثل ضمير { منهم } أي نبدلهم والمفعولُ الثاني { خيراً منهم }.

و (مِن) تفضيلية، أي خيراً في الخلقة، والتفضيلُ باعتبار اختلاف زمانَي الخلْق الأول والخلق الثاني، أو اختلافِ عالميهما.

والمعنى الثاني: أنْ نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمَّة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون { نبدل } على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفاً مثل ما في المعنى الأول، ويكون { خيراً } منصوباً على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [البقرة: 61]، ويكون هذا تهديداً لهم بأنْ سيستأصلهم ويأتيَ بقوم آخرين كما قال تعالى: { إن يشا يذهبكم ويأتِ بخلق جديد } [فاطر: 16] وقوله: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38].

وفي هذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.

وذيل بقوله: { وما نحن بمسبوقين }، والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق في الحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } [العنكبوت: 4]، ومنه قول مرة بن عَدَّاء الفقعسي:

كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرةإذا أنت أدركتَ الذي كنتَ تطلُب

يريد: كأنك لم تُغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك.

و { على أن نبدل خيراً منهم } مُتعلق بـ { مسبوقين }، أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة (61) إنا لقادرون { على أن نبدل أمثالكم } }.