التفاسير

< >
عرض

قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢
أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ
٣
يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤
-نوح

التحرير والتنوير

{ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى }.

لم تعطف جملة { قال يا قوم } بالفاء التفريعية على جملة { { أرسلنا نوحاً إلى قومه } [نوح: 1] لأنها في معنى البيان لجملة { { أنذر قومك } [نوح: 1] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أُدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أُمر أن يقول فقال، تنبيهاً على مبادرة نوح لإِنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه.

ولك أن تجعلها استئنافاً بيانياً لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه { أن أنذر قومك }، وهما متقاربان.

وافتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.

والنذير: المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عَمرو بن معديكرب:

أمِنْ ريْحانةَ الداعي السميع

وقد تقدم في أول سورة البقرة (10) عند قوله: { { ولهم عذاب أليم } }. وحذف متعلق { نذير } لدلالة قوله: { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون }عليه. والتقدير: إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقُوه ولم تطيعوني.

والمبين: يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بَانَ، أي مُوَضِّح أو مِن أبان القاصر، الذي هو مرادف بَان المجردِ، أي نذير وَاضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء (109، 110) { { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتقوا الله وأطيعون } }.

وتقديم { لكم } على عامله وهو { نذير } للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.

فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي: النداءُ وجعلُ المنادَى لفظ { يا قوم } المضاف إلى ضميره، وافتتاحُ كلامه بحرف التأكيد، واجتلابُ لام التعليل، وتقديمُ مجرورها.

و { أن } في { أن اعبدوا } تفسيرية لأن وصف { نذير } فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس (71) { { فأجمِعوا أمركم وشرُكاءكم } وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلاً تاماً.

واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: حال من أحوال الذات من باب { { حرمت عليكم الميتة } [المائدة: 3] أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون: لم يكن في شريعة نوح إلاّ الدعوةُ إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تُطلب الطاعة فيها، لكن لم تخل شريعة إلٰهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله: { يغفر لكم من ذنوبكم } ينصرف بادىء ذي بدء إلى ذنوب الإِشراك اعتقاداً وسجوداً.

وجَزْمُ { يغفر لكم من ذنوبكم } في جواب الأوامر الثلاثة { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون }، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.

وحرف { مِن } زائد للتوكيد، وهذا من زيادة { مِن } في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي وجميعِ نحاة الكوفة. فيفيد أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإِسلام.

ويجوز أن تكون { مِن } للتبعيض، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم، أي ذنوب الإِشراك وما معه، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية، ومغفرةُ الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله. وقال ابن عطية: معنى التبعيض: مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد. وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر { مِن } التبعيضية اقتصاداً في الكلام بالقدر المحقق.

وأما قوله: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإِنسان حُب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارضَ ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإِنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع. قال المعري:

وكلّ يريدُ العيشَ والعيشُ حَتفُه ويستعْذِبُ اللذاتِ وهي سِمَام

والتأخيرُ: ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء.

وقد أشعر وعدُه إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جُعل جزاءً لكل من عَبدَ الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله: { { أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [نوح: 1] كما تقدم آنفاً، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود (38) { { ويصنَعُ الفلك وكلَّما مرّ عليه ملأ من قومه سَخِروا منه } أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى: ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة.

والأجل المسمى: هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقةِ كل أحد منهم، فالتنوين في { أجل } للنوعية، أي الجنس، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى: { { ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَدّ إلى أرذل العمر } [الحج: 5].

ومعنى { مسمى } أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى: { { وأجل مسمى عنده } في سورة الأنعام (2).

فالأجل المسمى: هو عمر كل واحد، المعيّنُ له في سَاعةِ خلْقه المشار إليه في الحديث أن المَلَك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما يَنفُخ فيه الروحَ، واستعيرت التسمية للتعيين لشَبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال.

والمعنى: ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعاً فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم.

فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود (3) { { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتّعْكم متاعاً حسناً إلى أجللٍ مسمّى } وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

{ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تعلمون }.

يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لقوله: { ويؤخرْكم إلى أجل مسمى }، أي تعليلاً للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله: { أن اعبدوا الله } إلى قوله: { ويؤخِّركم } الخ لأن الربط بين الأمْر وجوابِه يعطي بمفهومه معنى: إِنْ لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى، فعُلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة { إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر }، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إِبَّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإِيمان ساعتئذٍ، كما قال تعالى: { { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [يونس: 98]، فيكون هذا حثاً على التعجيل بعبادة الله وتقواه.

فالأجَل الذي في قوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } غير الأجل الذي في قوله: { ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى } ويُناسِب ذلك قولُه عقبه { لو كنتم تعلمون } المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيَّنة لاستئصالهم، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين. وفي إضافة { أجل } إلى اسم الجلالة في قوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذاراً لهم ليؤمنوا بالله. ويحتمل أن تكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى، أي دون تأخيرهم تأخيراً مستمراً فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله: { إلى أجل مسمى }.

ويحتمل أن تكون الجملة تعليلاً لكلا الأجلين: الأجل المفاد من قوله: { { من قبل أن يَأتيهُم عذابٌ أليم } [نوح: 1] فإن لفظ { قبل } يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مُبْهم غير بعيد، والأجَل المذكورِ بقوله: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فيكون أجل الله صادقاً على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم.

وإضافته إلى الله إضافة كشف، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد.

وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } وبين قوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إما لاختلاف المراد بلفظيّ (الأجل) في قوله: { إلى أجل مسمى } وقوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر }، وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله: { إذا جاءَ لا يؤخر } فانفكت جهة التعارض.

أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإِنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين: أصل العلم الإِلٰهي بما سيكون، وأصل تقدير الله للأسباب وترتُّب مسبباتها عليها.

فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى: { { وما يعمَّر من معمَّر ولا يُنقص من عمره إلاّ في كتاب } [فاطر: 11] أي في علم الله، والناس لا يطلعون على ما في علم الله.

وأما وجودُ الأسباب كلها كأسباب الحياة، وترتبُ مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيِّراتٍ لم تكن موجودة إكراماً لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر. وفي الحديث "صدقة المرء المُسلم تزيد في العُمر" . وهو حديث حسن مقبول. وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من سره أن يُمد في عمره فليتق الله وليصِل رحمه" . وسنده جيد. فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص. وآجال العقوبات الإِلٰهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مُهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صْدَقُ قوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } وقد قال الله تعالى: { { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [الرعد: 39] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج.

فالذي رغَّب نوحٌ قومَه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرتْ آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كُشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "اعملُوا فكل مُيسَّر إلى ما خُلق له" ، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.

وفي إقحام فعل { كنتم } قبل { تعلمون } إيذان بأن علمهم بذلك المنتفيَ لوقوعه شرطاً لحرف { لو } محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى: { { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } في سورة يونس (2).

وجواب { لو } محذوف دل عليه قوله: { لا يؤخَّر }. والتقدير: لأيقنتم أنه لا يؤخر.