التفاسير

< >
عرض

وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
-الجن

التحرير والتنوير

اتفق القراء العشرة على فتح همزة: { أن لو استقاموا }، فجملة { أن لوِ استقاموا } معطوفة على جملة { أنه استمع نفر من الجن } [الجن: 1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثانٍ مما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس. والتقدير: وأوحي إليّ أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.

و { أن } مخففة من الثقيلة، وجيء بـ { أن } المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل { أوحي } [الجن: 1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره { لو استقاموا } إلى آخر الجملة. وسبك الكلام: أوحي إليَّ إسقاءُ الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.

وضمير { استقاموا } يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجرداً عن مَا صْدَقِه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر.

ويجوز أن يكون عائداً إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير { استقاموا } عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإِشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.

والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق.

و { الطريقة }: الطريق: ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفاً في قوله { كُنَّا طرائق قِدَداً } [الجن: 11].

والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيراً مستقيماً على طريقة، ولذلك فالتعريف في { الطريقة } للجنس لا للعهد.

وقوله: { لأسقيناهم ماء غدقاً: }وعد بجزاء على الاستقامة في الدّين جزاءً حسناً في الدنيا يكون عنواناً على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97].

وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كَسِنِي يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوحة من العيش وفي نخيل وجنات فكان جَعْل ترتُّبِ الإِسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف { لو } مشيراً إلى أن المراد: لأدَمْنا عليهم الإِسقاء بالماء الغَذَق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يُمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإِفتان في قوله: { لنفتنهم فيه } مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلاً لما تضمنَه معنى إدامة الإِسقاء فإنه تعليل للإِسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلاً للإِسقاء المفروض في جواب { لو } لأن جواب { لو } منتفٍ فلا يصلح لأن يُعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله: { لنفتنهم فيه } ظرف مستقر في موضع الحال من { ماء غدقاً } وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة.

وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.

والغدَق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.

وجملة { لِنَفْتِنَهم فيه } إدماج فهي معترضة بين جملة { وأن لو استقاموا على الطريقة } الخ وبين جملة { ومن يعرض عن ذكر ربّه } الخ.

ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله: { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم } الآية، بصريح الإِنذار بقوله: { ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذاباً صعداً }، أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.

والسَّلك: حقيقته الإِدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى:

كما سَلكَ السِّكيَّ في الباب فَيْتق

أي أدخل المِسمار في الباب نَجَّارٌ.

وتقدم عند قوله تعالى: { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر (12).

واستعمل السَلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى: نعذبه عذاباً لا مصرف عنه.

وانتصب { عذاباً } على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.

والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله: { عن ذكر ربّه } دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإِيماءَ إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذاباً صعداً.

والصّعَد: الشاق الغالِبُ، وكأنه جاءٍ من مصدر صَعد، كفرح إذا علا وارتفع، أي صَعِد على مفعوله وغلبه، كما يقال: عَلاَه بمعنى تمكن منه، { وأن لا تعلوا على الله } [الدخان: 19].

وقرأ الجمهور { نسلكه } بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف { يسلكه } بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه.