التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
٢٠
-الجن

التحرير والتنوير

قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.

ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجاً عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.

فكَسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة { أُوحي إليَّ } [الجن: 1]، والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إِنَّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقَل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: { وأن المساجد لله } [الجن: 18].

وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفاً على جملة { أنه استمع نفر } [الجن: 1]، أيْ وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إليَّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبَداً على عبد الله لما قام يدعو ربَّه.

وضمير { إنه } ضمير الشأن وجملة { لما قام عبد الله } إلى آخرها خبره.

وضمير { كادوا يكونون } عائدان إلى المشركين المنبى عنهم المقام غيبة وخطاباً ابتداء من قوله: { وألو استقاموا على الطريقة } [الجن: 16] إلى قوله: { فلا تدعوا مع الله أحداً } [الجن: 18].

و { عبد الله } هو محمد صلى الله عليه وسلم وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمتَ تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمتُ أدعو الله، كادوا يكونون عليَّ. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف { عبد الله } لما في هذه الإِضافة من التشريف مع وصف { عبدِ } كما تقدم غير مرة منها عند قوله: { سبحان الذي أسرى بعبده } [الإسراء: 1].

{ ولِبَداً } بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لِبْدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض، ومنه لِبْدَة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.

والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللَبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيظ وغضب وهمٍ بالأذى كما يقال: تأَلبوا عليه.

ومعنى { قام }: اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: { إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السماوات والأرض } في سورة الكهف (14)، وقال النابغة:

بأن حِصنا وحيّاً من بني أسدقَاموا فقالوا حمانا غير مقروب

وقد تقدم عند قوله تعالى: { ويقيمون الصلاة } في أول سورة البقرة (3).

ومعنى قيام النبي إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جَزْءٌ بنُ كليب الفقعسي:

فلا تبغينها يا بنَ كُوز فإنهغذَا الناسُ مُذ قام النبي الجواريا

أي قام يعبدُ الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده: { قال إنما أدعو ربّي ولا أشرك به أحداً }، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم لله تعالى.

وجملة { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً } بيان لجملة { يدعوه }.

وقرأ الجمهور { قال } بصيغة الماضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر { قل } بدون ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافاً. والتقدير: أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه.

و { إنما أدعو ربي }، يفيد قصراً، أي لا أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه.

وعطف عليه { ولا أشرك به أحداً } تأكيداً لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإِبلاغ.