التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
٨
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
٩
-الجن

التحرير والتنوير

قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفاً على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله: { فمن يستمع الآن يجدْ له شهاباً رصداً }

والتأكيد بـ (إنَّ) في قولهم: { وإنّا لمسنا السماء } لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله: { وإنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } الخ.

واللمس: حقيقته الجس باليد، ويطلق مجازاً على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختيار على طريق الاستعارة كما أطلق مُرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي:

مَسسنا من الآباءِ شَيئاً فكلُّناإلى نَسب في قَومه غير واضع

أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعاً كرامَ الآباء.

و { ملئت }: مستعمل في معنى كثُر فيها. وحقيقة الملء عَمْر فراغ المكان أو الإِناء بما يحل فيه، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحُراس على وجه الاستعارة.

والحَرس: اسم جمع للحُرَّاس ولا واحد له من لفظه مثل خدَم، وإنما يعرف الواحد منه بالحَرَسِيِّ. ووصف بشديد وهو مفرد نظراً إلى لفظ حرس كما يقال: السلف الصالح، ولو نُظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال: شِداد. والطوائف من الحَرس أحراس.

والشهب: جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مُضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نَيْزَكاً باسم الرمح القصير، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.

والمعنى: إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرَّجم، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية. كما قال في «الكشاف» وذكر شواهده من الشعر الجاهلي.

نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظاً للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } وسيأتي بيان ذلك.

وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده: { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } إلى آخره، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب، وأما نفس الحراسة وكثرة الشهب فإن المخبرين (بفتح الباء) يشاهدونه.

وقوله: { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } الخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرأوا بالكسر قوله: { وإنّا لمسنا السماء } وبفتح الهمزة الذين قرأوا بالفتح وهذا من تمام قولهم: { وإنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً }. وإنما أعيد معه كلمة { وإنا } للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله كالتوطئة له فإعادة { وإنا } توكيد لفظي.

وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام، أي هو جعل النصف الأسفل مباشراً للأرض مستقراً عليها وانتصاب النصف الأعلى. وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمناً طويلاً لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى: { واقْعدوا لهم كل مرصد } [التوبة: 5].

والمقاعد: جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرىء القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعداً

واللام في قوله: { للسمع } لام العلة أي لأجل السمع، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة، وضمير { منها } للسماء.

و (من) تبعيضية، أي من ساحاتها وهو متعلق بـ { نقعد }، وليس المجرور حالاً من { مَقاعَد } مقدَّماً على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماء فالعناية بمتعلِّق فعل القعود أولى، ونظيره قول كعب:

يمشي القراد عليها ثم يزلقهمِنْها لبان وأقرب زهاليل

فقوله (منها) متعلق بفعل (يُزلقه) وليس حالاً من (لَبان).

وأعلم أنه قد جرى على قوله تعالى: { مقاعد للسمع } مبحث في مَباحِث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في «المثل السائر» إلى ابن سنان الخفاجي فقال: إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينُهُ فأوجبَ قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي:

أعزِزْ عليَّ بأن أراك وقد خَلاعن جانبيْكَ مَقَاعِدُ العُوَّاد

فإن إيراد هذه اللفظة (أي مقاعد) في هذا الموضع صحيح إلاّ أنه يوافق ما يُكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من يُحتمل إضافته (أي ما يكره) إليه وهم العُواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلاً. قال ابن الأثير: هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى: { تُبوِّىء المؤمنين مقاعد للقتال } [آل عمران: 121] وقوله: { وأنَّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع }، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلاً من مقاعد العُواد مقاعد الزيارة لزالت تلك الهجنة اهـ. وأقول: إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثراً في وقع الكلمات عند الأفهام.

والفاء التي فرعت { من يستمع الآن يَجِدْ له شهاباً رصداً } تفريع على محذوف دل عليه فعل { كنا } وترتب الشرط وجزائه عليه وتقديرُه: كنا نقعد منها (أي من السماء) مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمعْ الآن لا يتمكَّن من السماع.

وكلمة { الآن } مقابل كلمة { كنا }، أي كان ذلك ثم انقضى.

وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.

والجنُّ لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق، شأنَ انسياق المخلوقات إلى ما خُلقت له مثل تهافت الفَراش على النار، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعاً للهوى مثل مغامرات الهُواة في البحار والجبال والثلوج.

ووقوع { شهاباً } في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.

والرصدَ: اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف لـ { شهاباً }، أي شهباً راصدة، ووصفها بالرصْد استعارة شبهت بالحراس الراصدين. وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجنيّ من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصاً فيكمله الكاهن بحدْسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده. وفي الحديث «فيزيد على تلك الكلمة مائة كَذْبة».

وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسببٍ بين النفوس، ومعظمُه أوهام. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: «ليسوا بشيء».

أخرج البخاري عن ابن عباس قال «كان الجن يستمعون الوحي» (أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور) فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنعوا، فقالوا: ما هذا إلاّ لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائماً يصلي بمكة قالوا: هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم: { إنا سمعنا قرآنا عجباً } [الجن: 1] الآية وأنزل على نبيه { قُل أوحي إليه أنه استمع نفر من الجن } [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن اهـ.

ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجارٍ تمُرّ على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوَّة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المستَرِق حتى يبلغ إلى المَلك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلاّ أحرقَها وبَخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.