التفاسير

< >
عرض

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
٢٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
٢٧
لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ
٢٨
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ
٢٩
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
٣٠
-المدثر

التحرير والتنوير

جملة { سأُصليه سقر } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: { إنه فكّر وقدّر } [المدثر: 18] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.

ويجوز أن تكون بدلاً من جملة { سأرهق صعوراً }. والإِصلاء: جعل الشيء صالياً، أي مباشراً حرَّ النار. وفعل صَلِيَ يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدَفّىء كقول الحارث بن حِلزة:

فتنورتَ نارها من بعيدبخزازَى أيَّانَ منكَ الصلاء

أي أنت بعيد من التدفىء بها وكما قال حُمَيد بن ثَوْر:

لا تصطلي النارَ إلاّ مِجْمَرا أرِجَاقد كَسَّرت من يَلْنَجُوجٍ له وَقَصَا

ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: { سَيصلَى ناراً ذات لهب } في سورة أبي لهب (3) وقال: { فأنذرتكم ناراً تلظَّى لا يصلاَها إلاّ الأشقى } في سورة الليل (14، 15)، وقال: { { وسيَصلون سعيراً } في سورة النساء (10)، والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإِحراق كقوله تعالى: { فسوف نُصليه ناراً } في سورة النساءِ (30). ومنه قوله هنا سأُصليه سقر.

وسقر: علَم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السّادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي ا هـ. واقتصر عليه ابنُ عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسّرون سقر بما يرادف جهنم.

وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بُقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: { لا تُبقي } إلى قوله: { عليها تسعة عشر }. وقيل سقر معرَّب نقله في «الإِتقان» عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعرّبة ولا من أية لغة هو.

و { ما أدراك ما سقر } جملة حالية من { سقر }، أي سقر التي حالها لا ينبئك به مُنبىء وهذا تهويل لحالها.

و { ما سقر } في محل مبتدإ وأصله سقر مَّا، أي ما هي، فقدّم { ما } لأنه اسم استفهام وله الصدارة.

فإن { ما } الأولى استفهامية. والمعنى: أيُّ شيء يدريك، أي يعلمك.

و { ما } الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن { سقر }.

وجملة { لا تبقي } بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة { وما أدراك ما سَقر }، فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر.

وحذف مفعول { تبقي } لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحداً أو لا تبقي من أجزائهم شيئاً.

وجملة { ولا تذر } عطف على { لا تبقي } فهي في معنى الحال، ومعنى { لا تذر }، أي لا تترك من يلقَى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: { كلما نَضِجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [النساء: 56].

و { لوّاحة }: خبر ثالث عن { سقر }. و { لوّاحة } فعَّالة، من اللّوح وهو تغيير الذات من ألمٍ ونحوه، وقال الشاعر، وهو من شواهد «الكشاف» ولم أقف على قائله:

تقول ما لاحكَ يا مُسافِرْيا ابنة عمي لاحني الهَواجِرْ

والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإِنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداً، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.

وقوله: { عليها تسعة عشر } خبر رابع عن { سَقر } من قوله: { وما أدراك ما سقر }.

ومعنى { عليها } على حراستها، فـ (على) للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر مَلَكاً.

وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هُم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.

وقيل: تسعة عشر صِنفاً من الملائكة وقيل تسعة عشر صفّاً. وفي «تفسير الفخر»: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً: أحدها قول أهل الحكمة: إن سبب فساد النفس هو القُوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولِّدة، فهذه سبعة، فتلك تسعَ عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اهـ.

والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزَّعون على دركات سقر أو جهنمَ لكل دَرك مَلك فلعل هذه الدركات معيَّن كل درك منها لأهل شعبة من شُعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } في سورة النساء (145) فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الإِلٰه، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشيطان والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإِباحيةُ ولو مع إثبات الإِلٰه الواحد.

وفي ذكر هذا العدد تحدٍّ لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } [المدثر: 31].

وقرأ الجمهور { تسعة عَشر } بفتح العين من { عَشر }. وقرأ أبو جعفر { تسعة عشر } بسكون العين من { عشْر } تخفيفاً لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.