التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
٣
بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
٤
-القيامة

التحرير والتنوير

افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن.

وكونُ القَسَم بيوم القيامة براعةُ استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة.

وفيه أيضاً كون المقسَم به هو المقسَم على أحواله تنبيهاً على زيادة مكانته عند المُقسِم كقول أبي تمام:

وثَنايَاك إِنَّها اِغرِيضُولآَلٍ تُؤْمٌ وبَرْقٌ ومِيضُ

كما تقدم عند قوله تعالى: { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً } في سورة الزخرف (1- 3).

وصيغة { لا أقسم } صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل { أقسم } لقصد المبالغة في تحقيق حُرْمة المقسَم به بحيث يُوهِم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعزَّ منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القَسم وتقدم عند قوله تعالى: { فلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة (75).

وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد.

والقسم { بيوم القيامة } باعتباره ظرفاً لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة.

وتقدم الكلام على { يوم القيامة } غير مرة منها قوله تعالى: { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } في سورة البقرة (85).

وجواب القسم يؤخذ من قوله: { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } لأنه دليل الجواب إذ التقدير: لنجمعن عظام الإِنسان أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه.

وفي «الكشاف» «قالوا إنه (أي لا أقسم) في الإِمام بغير ألف» وتبرأ منه بلفظ (قالوا) لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ { لأقسم } الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في «غيث النفع» ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد، فتكون اللام لامَ قسم. والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله: { ولا أقسم } تأكيداً للجملة المعطوف عليها، وتعريف { النفس } تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصفُ { اللوامة } مبالغة لأنها تُكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومُها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن «ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه على ما فات ويندم، يلوم نفسه على الشر لِم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه» فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقَسَم بها وما كان يوم القيامة إلاّ لكرامتها.

والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذ { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } [الفجر: 24].

ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم. وعن بعض المفسرين أن { لا أقسم } مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تَلوم على فعل الخير.

وقوله: { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } الخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب.

وتعريف { الإِنسان } تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإِنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلى غالب الناس يومئذٍ إذ كان المؤمنون قليلاً. فالمعنى: أيحسب الإِنسان الكافر.

وجملة { أن لن نجمع عظامه } مركبة من حرف { أن } المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت (إنّ) المكسورة.

واسم { أن } ضمير شأن محذوف.

والجملة الواقعة بعد { أنْ } خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل { أن } مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي فعل الظن. والأخفش يَجعل { أن } مع جزئيها في مقام المفعول الأول (أي لأنه مصدر) ويقدِّر مفعولاً ثانياً. وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول (أن) المفتوحة الهمزة بعدها فيستغني الفعل بـ (أن) واسمها وخبرها عن مفعوليه.

وجيء بحرف { لن } الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها.

قال القرطبي: نزلت في عدي بن ربيعة (الصواب ابن أبي ربيعة) قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد حدِّثْني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقْك أوَ يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية، ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصص الإِنسان بهذا السائل.

والعظام: كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقوالهم { من يُحيي العظام وهي رميم } [يس: 78] { أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون } [الإسراء: 49] { أإذَا كنا عظاماً نخرة } [النازعات: 11] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإِعادة بعد البِلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى. فإثبات إعادة العظام اقتضى أن إعادة بقية الجسم مساوٍ لإِعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإِيجاز.

ثم إن كانت إعادة الخلق بجَمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذراتٍ الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل { نجمع } محمول على حقيقته. وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على صور الأجسام الفانية سواء كان خلقاً مستأنفاً أو مبتدأ من أعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا. ففعل { نجمع } مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلِيَ. ومناسبة استعارته مشاكلةُ أقوال المشركين التي أريد إبطالُها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلاّ إجمالها ومِن ثَم اختلف علماء الإِسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث. واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين.

و { بَلَى } حرف إبطال للنفي الذي دل عليه { لن نجمع عظامه } فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع.

و { قادرين } حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد { بَلَى } الذي يدل عليه قوله: { أن لن نجمع }، أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نُسوي بَنانه.

ويجوز أن يكون { بلى } إبطالاً للنفيين: النفي الذي أفاده الاستفهام الإِنكاري من قوله { أيحسب الإِنسان } والنفي الذي في مفعول { يحسب }، وهو إبطال بزجر، أي بَل لِيحسِبْنا قادرين، لأن مفاد { أن لَنْ نجمع عظامه } أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون { قادرين } مفعولاً ثانياً لِيَحْسِبْنَا المقدر، وعدل في متعلق { قادرين } عن أن يقال: قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإِعادة.

ولمراعاة هذه المعاني عُدل عن رفع: قادرون، بتقدير: نحن قادرون، فلم يقرأ بالرفع.

والتسوية: تقويم الشيء وإتقان الخلْق قال تعالى: { ونفسٍ وما سَوّاها } [الشمس: 7] وقال في هذه السورة: { فخَلَق فسوى } [القيامة: 38]. وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوَّمة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سُوِّيَ إلاّ وقد أُعيد خلقه قال تعالى: { الذي خلق فسوى } [الأعلى: 2].

والبَنان: أصابع اليدين والرجلين أو أطرافُ تلك الأصابع. وهو اسم جمع بَنانَةٍ.

وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسْوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول: قَلعتْ الريح أوتادَ الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلَّها فإنه قد يكنَّى بأطراف الشيء عن جميعه.

ومنه قولهم: لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبْل الذي يشد به، كناية عن جميع الشيء. وكذلك قولهم: هوَ لك برُمته، أي بحبله الذي يشد به.