التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
-القيامة

التحرير والتنوير

ردع ثان على قول الإِنسان { أيَّانَ يومُ القيامة } [القيامة: 6]، مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله: { كَلاَّ بل تحبّون العاجلة } [القيامة: 20]. ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله: { إلى ربك يومئذٍ المَساق } أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى.

وعن المغيرة بن شعبة يقولون: القيامة القيامةُ، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال: «أمَّا هذا فقد قامت قيامته»، فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يَعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرةً.

وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا وتنبهوا على ما بَيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعاً على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكداً للردع الذي في قوله: { كلا بل تحبون العاجلة } [القيامة: 20] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة.

و { إذا بلغت التراقي } متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله: { إلى ربك }. والمعنى: المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي.

وجملة { إلى ربك يومئذٍ المساق } بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله: { يسأل أيّان يوم القيامة } [القيامة: 6].

و { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعني قوله: { إلى ربك يومئذٍ المساق }.

وتقديم { إلى ربك } على متعلقه وهو { المساق } للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم.

وضمير { بلغت } راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل { بلغَتْ } ومن ذكر { التراقي } فإن فعل { بلغت التراقي } يدل أنها روح الإنسان. والتقدير: إذا بلغت الروحُ أو النفس. وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي:

أمَاوِيَّ ما يغني الثَّراء عن الفتىإذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بهَا الصدر

أي إذا حشرجت النفس. ومن هذا الباب قول العرب «أرْسَلَتْ» يريدون: أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع.

والأنفاسُ: جمع نفَس، بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق.

و { التراقي }: جمع تَرْقُوة (بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث) وهي ثُغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله.

فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس، لأن في تثنية ترقوة شيئاً من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى: { فقد صغت قلوبكما } في سورة [التحريم: 4].

ومعنى { بلغتْ التراقي }: أن الروح بلغت الحُنْجُرة حَيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى: { فلولا إذا بلغت الحُلقوم } الآية [الواقعة: 83].

واللام في { التراقي } مثل اللام في المساق فيقال: هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تَرَاقِيَه، أي الإِنسانِ.

ومعنى { وقيل مَنْ رَاقٍ } وقال قائل: من يَرْقِي هذا رُقْيَات لشفائه؟ أي سأل أهلُ المريض عن وِجْدَانِ أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به والبحث عن عارف برقية المريض عادة عَربية ورد ذكرها في حديث السَرِيَّة الذين أَتَوْا على حيّ من أحياء العرب إذْ لُدغ سيد ذلك الحي فعَرض لهم رجل من أهل الحي، فقال: هل فيكم مِن راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب.

والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث: هي كلام خاص معتقَد نفعه يقوله قائل عند المريض واضعاً يده في وقت القراءة على موضع الوَجَع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي مِن صَرَع الجنون ومن ضُر السموم ومن الحُمَّى.

ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سَمَّوا الراقي ونحوه عَرَّافاً، قال رؤبة بن العجاج:

بَذَلْتُ لعَرَّاف اليَمامة حُكْمَهُوعَرَّافِ نجدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي
فما تركَا من عُوذَة يعرفانهاولا رُقْيَةٍ بهَا رَقَيَاني

وقال النابغة يذكر حالةَ من لدغته أفعى:

تناذرها الراقُون من سُوء سمعهاتُطلقه طَوْراً وطَوراً تُراجع

وكانَ الراقي ينفث على المَرْقِيّ ويتفُل، وأشار إليه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله: «ثم إنه طَمَس المكتوب على غَفلة، وتَفَلَ عليه مِائَةَ تَفْلَة».

وأصل الرقية: ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقوالٍ ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياءَ كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة، وقد جاء في الإِسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء.

والضمير المستتر في { ظَنَّ } عائد إلى الإِنسان في قوله: { بل يريد الإِنسان } [القيامة: 5] أي الإِنسان الفاجر.

والظن: العلم المقارب لليقين، وضمير { أنه } ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراقُ، أي فراق الحياة.

وقوله: { والتفَّت الساقُ بالساق } إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفافُ ساقَي المحْتضر بعد موته إذ تُلَفُّ الأَكفان على ساقيْه ويُقرن بينهما في ثوب الكفن فكُلُّ ساق منهما ملتفة صحبةَ الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيَّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة.

ويجوز أن يَكون ذلك تمثيلاً فإن العرب يستعملون الساق مثلاً في الشدة وجِدّ الأمر تمثيلاً بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون: قامت الحرب على ساق.

وأنشد ابنُ عباس قولَ الراجز:

صبراً عَنَاقُ إنه لَشِرْبَاقْقد سَنَّ لي قومُك ضَرْبَ الأعناق
وقَامتْ الحربُ بِنا على سَاقْ

وتقدم في قوله تعالى: { { يوم يُكشف عن ساق } في سورة القلم (42).

فمعنى { والتفَّت الساق بالساق } طَرأت مصيبة على مصيبة.

والخطاب في قوله: { إلى ربك } التفات عن طريق خطاب الجماعة في قوله: { بل تحبّون العاجلة } [القيامة: 20] لأنه لما كان خطاباً لغير معيّن حسن التفنن فيه.

والتعريف في { المساق } تعريف الجنس الذي يعم الناس كلهم بما فيهم الإِنسان الكافر المردود عليه. ولك أن تعبر عن اللام بأنها عوض عن المضاف إليه، أي مساق الإِنسان الذي يَسأل: { أيَّان يوم القيامة } [القيامة: 6].

و { المساق }: مصدر ميمي لـ (سَاقَ)، وهو تسيير ماشٍ أمام مُسَيِّره إلى حيث يريد مُسَيِّرُه، وضده القَوْد، وهو هنا مجاز مستعمل في معنى الإِحْضار والإِيصال إلى حيث يلقى جزاء ربه.

وسُلك في الجمل التي بعد { إذَا } مسلكُ الإِطناب لتهويل حالة الاحْتضار على الكافر وفي ذلك إيماء إلى أن الكافر يَتراءى له مصيره في حالة احْتضاره وقد دل عليه حديث عبادة بن الصامت في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كَره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا نكره الموت. قال: ليس ذاكِ ولكن المؤمن إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوان الله وكرامته فليسَ شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشّر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه"