التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
-القيامة

التحرير والتنوير

عُدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدَّدوا بأهواله، لأنهم لم يَكونوا جادِّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن يُنذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدْي ما يترك فُرصَة للهدي والإِرشاد إلاّ انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاماً بالجواب عن سؤالهم كأنه حملٌ لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم «متى الساعة؟ فقال له: مَاذا أعددت لها».

فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئاً من تعيين وقته بتعيين أشراطه.

والفاء لتفريع الجواب عن السؤال.

و { بَرِق } قرأه الجمهور بكسر الراء، ومعناه: دُهِش وبُهت، يقال: برِق يَبرَق فهو بَرِق من باب فرح فهو من أحوال الإِنسان.

وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلاً له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره. كما أسند الأعشى البَرَق إلى الأعين في قوله:

كذلك فافْعَلْ ما حييت إِذَا شتواوأقدِمْ إذا ما أعينُ الناس تفرَق

وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لَمَع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرُق بضم الراء. وإسناده إلى البصر حقيقة.

ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى: { { واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } [الأنبياء: 97]، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير.

والتعريف في { البصر } للجنس المرادِ به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائقِ منازلهم.

وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماساً مستمراً بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيِّراً، وهو ما دل عليه قوله: { وجُمع الشمس والقمر }، فهذا خسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحُولُ الأرضُ بين القمر وبين مُسامتته الشمسَ.

ومعنى جَمْع الشمس والقمر: التصاقُ القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي.

و { إذا برق البصر } ظَرف متعلق بـ { يقول الإِنسان }، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله: { يسأل أيّان يوم القيامة } [القيامة: 6].

وطُوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم { أين المَفر } فكأنه قيل: حَلَّ يومُ القيامة وحضرت أهوالُه يقول الإنسان يومئذٍ ثم تأكَّدَ بقوله { إلى ربك يومئذٍ المستقر }.

و { يومئذٍ } ظرف متعلق بـ { يقول }أيضاً، أي يومَ إذْ يبرق البصر ويخسف القمر ويُجمع الشمس والقمر، فتنوين (إذ) تنوين عِوض عن الجملة المحذوفة التي دَلت عليها الجملة التي أضيف إليها (إذ).

وذُكر { يومئذٍ } مع أن قوله: { إذا بَرَقَ البصر } الخ مُغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد.

و { الإِنسان }: هو المتحدَّث عنه من قوله: { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [القيامة: 3]، أي يقول الإِنسان الكافر يومئذٍ: أي المفر.

و { المَفَر }: بفتح الميم وفتح الفاء مصدر، والاستفهام مستعمل في التمني، أي ليت لي فراراً في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه.

و { أين } ظرف مكان.

و { كلا } ردع وإبطال لما تضمنه { أين المفر } من الطمع في أن يجد للفرار سبيلاً.

و { الوَزر }: المكان الذي يُلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون.

فيجوز أن يكون { كلاّ لا وَزَر } كلاماً مستأنفاً من جانب الله تعالى جواباً لمقالة الإِنسان، أي لا وزر لكَ، فينبغي الوقفُ على { المفر }. ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإِنسان، أي يقول: أين المفر؟ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول { كَلاّ لا وزَر } أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلاّ النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يُوصل { أين المفر } بجملة { كلا لا وَزَر }.

وأما قوله: { إلى ربك يومئذٍ المستقرّ } فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله: { يومئذٍ }، فهو اعتراض وإدْماج للتذكير بمُلك ذلك اليوم.

وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذٍ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.

و { المستقَرّ }: مصدر ميمي من استقَرّ، إذا قَرّ في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف.

وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر. والمعنى: لا ملجأ يومئذٍ للإِنسان إلاّ منتهياً إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: { وإلى الله المصير } [آل عمران: 28].

وجملة { يُنَبَّأ الإِنسانُ يومئذٍ بما قدّم وأخَّر } مستأنفة استئنافاً بيانياً أثارهُ قوله: { إلى ربك يومئذٍ المستقر }، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم يُنبأون بما قدموا وما أخروا.

وينبغي أن يكون المراد بـ { الإِنسان } الكافر جرياً على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذٍ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى: { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } الآية [آل عمران: 30]. واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنوناً من التذكير لا تلزم طريقة واحدة. وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة.

وتنبئةُ الإِنسان بما قدّم وأخرّ كناية عن مجازاته على ما فعله: إن خيراً فخيرٌ وإن سُوءاً فسوءٌ، إذ يقال له: هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلَته ويلقَى جزاءها، فكانَ الإِنباء من لوازم الجزاء قال تعالى: { قل بلى وربي لَتُبْعَثُنّ ثم لَتُنَبَّؤنَّ بما عَمِلتم } [التغابن: 7] ويحصل في ذلك الإِنباء تقريع وفضح لحاله.

والمراد بـ { ما قدم }: ما فَعَله وبـ { ما أخرّ }: ما تركه مما أُمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كُلف به ومما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء: "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت" .