التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٢٠
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
٢١
إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢٢
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ
٢٣
-المرسلات

التحرير والتنوير

تقرير أيضاً يجري فيه ما تقدم في قوله: { ألم نهلك الأولين }، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع.

وكل من التقرير والتقريع من مقتضيات ترك العطف لشَبَهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه.

وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإِيجاد بعد العدم إيجاداً متقناً دالاً على كمال الحكمة والقدرة ليفضَى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإِعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بُدىء أول مرة وكفى بذلك مرجحاً لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإِرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه.

والماء: هو ماء الرجُل. والمَهين: الضعيف فعيل من مَهُنَ، إذا ضعُف، وميمه أصلية وليس هو من مادة هَان.

وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنساناً شديد القوة عقلاً وجسماً.

وحرف (مِن) للابتداء لأن تكوين الإِنسان نشأ من ذلك الماء، كما تقول: هذه النخلة مِن نواة تَوْزَرِيَّة.

وجعل خلق الإِنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلاّ بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم تكوينَ الجنين من ماء المرأة وماء الرجل.

وقوله: { فجعلناه في قرار مكين } تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإِدماج مع مناسبته لأن له دخلاً في تبيين إمكان الإِعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء، ولذلك ذيله بقوله { فنعم القادرون } على التفسيرين الآتيين.

والقرار: محل القرور والمكث.

و { مَكين }: صفة لـ { قرار }، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكُن مَكانة، إذا ثبت ورسخ.

ووُصف القرارُ بالمكين على طريقة المجاز العقلي، أي مكين الحالُّ والمستقرّ فيه. فالتقدير: مكين فيه. والمراد بالقرار المكين: الرحم.

والقدَر: بفتح الدال المقدار المعيّن المضبوط، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل.

وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر { فقدَّرنا } بتشديد الدال. وقرأه الباقون بتخفيف الدال من قَدر المتعدي وهما بمعنى واحد، يقال: قَدَّر بالتشديد تقديراً فهو مُقدِّر، وقدَر بالتخفيف قَدْراً فهو قادر، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جُعل له.

والمعنى: فقدرنا الخلق كقوله تعالى: { من نطفة خلقه فقدَّره } [عبس: 19] وقوله: { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } [الفرقان: 2].

والفاء في قوله: { فقدّرنا } للتفريع على قوله: { فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم }، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالاً.

والفاء في { فنعم القادرون } للتفريع على (قدّرنا) أي تفريع إنشاءٍ ثناء، أي فدل تقديرُنا على أننا نعم القادرون، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة.

و { القادرون }: اسم فاعل من قدَر اللازم إذا كان ذا قُدرة وبذلك يكون الكلام تأسيساً لا تأكيداً، أي فنعم القادرون على الأشياء.

وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون (قَدّرنا) فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح.