التفاسير

< >
عرض

ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٩
ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ
٣٠
لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ
٣١
-المرسلات

التحرير والتنوير

هذا خطاب للمكذبين في يوم الحشر فهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب بالانطلاق دون وجود مخاطب يؤمر به الآن.

والضمير المقدَّر مع القول المحذوف عائد إلى المكذبين، أي يقال للمكذبين.

والأمر بانطلاقهم مستعمل في التسخير لأنهم تنطلق بهم ملائكة العذاب قسراً.

وما كانوا به يكذبون هو جهنم. وعبر عنه بالموصول وصلته لما تتضمنه الصلة من النداء على خطئهم وضلالهم على طريقة قول عَبْدَة بن الطَّبيب:

إِنَّ الذين ترَوْنَهم إِخْوَانَكميشْفِي غَلِيلَ صُدورهم أنْ تُصْرَعُوا

وجملة { انطلقوا إلى ظل } إلى آخرها، بدل اشتمال أو مطابقٌ من جملة { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون }.

وأعيد فعل { انطلقوا } على طريقة التكرير لقصد التوبيخ أو الإِهانة والدَّفْع، ولأجله أُعيد فعل { انطلقوا } وحرفُ { إلى }.

ومقتضى الظاهر أن يقال: انطلقوا إلى ما كنتُم به تكذبون ظِلٍ ذي ثلاث شعب، فإعادة العامل في البدل للتأكيد في مقام التقريع.

وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته، فعبر عنه بالظل تهكماً بهم لأنهم يتشوقون ظلاً يأوون إلى برده.

وأفرد { ظل } هنا لأنه جعل لهم ذلك الدخان في مكان واحد ليكونوا متراصين تحته لأن ذلك التراص يزيدهم ألماً.

وقرأ الجمهور { انطلقوا } الثاني بكسر اللام مثل { انطلقوا } الأول، وقرأه رُوَيس عن يعقوب بفتح اللام على صيغة الفعل الماضي على معنى أنهم أُمروا بالانطلاق إلى النار فانطلقوا إلى دخانها، وإنما لم يعطف بالفاء لقصد الاستئناف ليكون خبراً آخرَ عن حالهم.

والشُّعَب: اسم جمع شُعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه، أي ذي ثلاث طوائف وَأريد بها طوائف من الدخان فإن النار إذا عظم اشتعالها تصاعد دخانها من طرفيها ووسطها لشدة انضغاطه في خروجه منها.

فوُصف الدخان بأنه ذو ثلاث شعب لأنه يكون كذلك يوم القيامة. وقد قيل في سبب ذلك: إن شعبة منه عن اليمين وشعبة عن اليسار وشعبة من فوق، قال الفخر: «وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإِنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلاّ هذه الثلاثة، ويمكن أن يقال ها هنا ثلاث درجات وهي: الحِس، والخيال، والوهَم. وهي مانعة للروح من الاستنارة بأنوار عالم القدس» اهـ.

والظليل: القوي في ظِلاله، اشتق له وصف من اسمه لإفادة كماله فيما يراد منه مثل: لَيْلٌ ألْيَلُ، وشِعْرٌ شَاعِرٌ، أي ليس هو مثل ظل المؤمنين قال تعالى: { ونُدخلهم ظِلاًّ ظليلاً } [النساء: 57]. وفي هذا تحسير لهم وهو في معنى قوله تعالى: { وظِلٍّ من يَحموم لا بَارِد ولا كريم } [الواقعة: 43، 44].

وجُرّ { ظليل } على النعت لـ { ظل }، وأقحمت { لا } فصارت من جملة الوصف ولا يظهر فيها إعراب كما تقدم في قوله تعالى: { إنها بقرةٌ لاَ فَارض ولا بِكْر } [البقرة: 68] وشأن { لا } إذا أدخلت في الوصف أن تكرر فلذلك أعيدت في قوله: { ولا يغني من اللهب }.

والإِغناء: جعل الغير غنياً، أي غير محتاج في ذلك الغرض، وتعديته بـ (مِن) على معنى البدلية أو لتضمينه معنى: يُبعد، ومثله قوله تعالى: { وما أُغني عنكم من الله مِنْ شيء } [يوسف: 67]. وبذلك سلب عن هذا الظل خَصائص الظلال لأن شأن الظل أن ينفس عن الذي يأوي إليه أَلَم الحر.