التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ
٣٥
وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
٣٦
-المرسلات

التحرير والتنوير

إن كانت الإِشارة على ظاهرها كان المشار إليه هو اليوم الحاضر وهو يوم الفصل فتكون الجملة من تمام ما يقال لهم في ذلك اليوم بعد قوله: { { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } [المرسلات: 29] فيكون في الانتقال من خطابهم بقوله: { انطلقوا } إلى إِجراء ضمائر الغيبة عليهم، التفات يزيده حسناً أنهم قد استحقوا الإِعراض عنهم بعد إهانتهم بخطاب { انطلقوا }.

وهذا الوجه أنسب بقوله تعالى بعده: { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } [المرسلات: 38]، وموقع الجملة على هذا التأويل موقع تكرير التوبيخ الذي أفاده قوله: { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } وهو من جملة ما يقال لهم في ذلك اليوم، واسم الإِشارة مستعمل في حقيقته للقريب.

وإن كانت الإِشارة إلى المذكور في اللفظ وهو يوم الفصل المتحدث عنه بأنَّ فيه الويل للمكذبين، كان هذا الكلام موجهاً إلى الذين خوطبوا بالقرآن كلهم إنذاراً للمشركين منهم وإنعاماً على المؤمنين، فكانت ضمائر الغيبة جارية على أصلها وكانت عائدة على المكذبين من قوله: { ويل يومئذٍ للمكذبين } [المرسلات: 34] وتكون الجملة معترضة بين جملة { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } [المرسلات: 29] وجملة { { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } [المرسلات: 38]. واسم الإِشارة الذي هو إشارة إلى القريب مستعمل في مشار إليه بعيد باعتبار قرب الحديث عنه على ضرب من المجاز أو التسامح.

واسم الإِشارة مبتدأ { ويومُ لا ينطقون } خبر عنه.

وجملة { لا ينطقون } مضاف إليها { يوم }، أي هو يومٌ يُعرَّف بمدلول هذه الجملة، وعدم تنوين { يوم } لأجل إضافته إلى الجملة كما يضاف (حين) والأفصح في هذه الأزمان ونحوه إذا أضيف إلى جملة مفتتحة بـ { لا } النافية أن يكون معرباً، وهو لغة مُضر العُليا، وأما مضر السفلى فهم يبنونه على الفتح دائماً.

وعطف { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } على جملة { لا ينطقون }، أي لا يؤذن إذناً يتفرع عليه اعتذارهم، أي لا يؤذن لهم في الاعتذار. فالاعتذار هو المقصود بالنفي، وجعل نفي الإِذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم، ولذلك جاء { فيعتذرون } مرفوعاً ولم يجىء منصوباً على جواب النفي إذ ليس المقصود نفي الإِذن وترتّب نفي اعتذارهم على نفي الإِذن لهم إذ لا محصول لذلك، فلذلك لم يكن نصب { فيعتذرون } مساوياً للرفع بل ولا جائزاً بخلاف نحو { لا يُقضى عليهم فيموتوا } [فاطر: 36] فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قُضي عليهم لماتوا، أي فقَدوا الإِحساس، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد. ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن { فيعتذرون } استئناف تقديره: فهم يعتذرون، ولا إلى ما قاله ابن عطية تبعاً للطبري: إنه ينصب لأجل تشابه رؤوس الآيات، وبعد فإن مناط النصب في جواب النفي قصدُ المتكلم جعْلَ الفعل جواباً للنفي لا مجرد وجود فعل مضارع بعد فعل منفي.

واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى: { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } [غافر: 11] لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل.

وأما نطقهم المحكي في قوله: { ربنا أمتنا اثنتين } فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بنَ الأزرق حين قال نافع: إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال الله: { ولا يتساءلون } [المؤمنون: 101]، وقال: { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [الصافات: 27] فقال ابن عباس: لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذٍ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. والذي يجمع الجواب عنْ تلك الآيات وعن أمثالها هو أنه يجب التنبه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض.