التفاسير

< >
عرض

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
-النبأ

التحرير والتنوير

يجوز أن تكون جملة { إن جهنم كانت مرصاداً } في موضع خبر ثان لـــ{ إنّ } من قوله: { { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [النبأ: 17] والتقدير: إن يوم الفصل إنَّ جهنم كانت مرصاداً فيه للطاغين، والعائد محذوف دل عليه قوله: { مرصاداً } أي مرصاداً فيه، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين.

ودخول حرف (إنَّ) في خبر (إن) يفيد تأكيداً على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله: { يوم الفصل } على حد قول جرير:

إنّ الخليفة إنَّ الله سربَلهسِربال مُلْك به تُزجَى الخَواتِيم

ومنه قوله تعالى: { { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن اللَّه يفصل بينهم يوم القيامة } كما تقدم في سورة الحج (17)، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله: { { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً } [النبأ: 18].

والتعبير بــــ«الطّاغين» إظهار في مقام الإِضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول: «لكم مئاباً».

ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة { { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [النبأ: 17] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلّب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون { إن جهنم كانت مرصاداً } الآية. وعليه فليس في قوله: { للطاغين } تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.

وابتدىء بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.

وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة. قيل: وهو اسم مُعرَّب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية، وقد تقدم عند قوله تعالى: { { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } في سورة البقرة (206).

والمرصاد: مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مِفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مِضمار للموضع الذي تضُمَّر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.

والمعنى: أن جهنم موضع يرصد منه الموَكّلون بها، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يَأتيه من عدوّ.

ويجوز أن يكون مرصاد مصدراً على وزن المفعال، أي رصداً. والإِخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحداً ممن حق عليهم دخولها.

ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه (ها) التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلاً.

ومتعلق: { مرصاداً } محذوف دل عليه قوله: { للطاغين مئاباً }.

والتقدير: مرصاداً للطاغين، وهذا أحسن لأن قرائن السورة قِصارٌ فيحسن الوقف عند { مرصاداً } لتكون قرينة.

ولك أن تجعل { للطاغين } متعلقاً بـــ { مرصاداً } وتجعل متعلق { مئاباً } مقدراً دل عليه { للطاغين } فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقيةً لِمَا في القرينة الأولى في القرينة المُوالية فتكون القرينة طويلة.

ولو شئت أن تجعل { للطاغين } متنازعاً فيه بين { مرصاداً } أو { مئاباً } فلا مانع من ذلك معنىً.

وأقحم { كانت } دون أن يقال: إن جهنم مرصادٌ للدلالة على أن جعلها مرصاداً أمر مقدر لها كما تقدم في قوله: { { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [النبأ: 17]. وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعدّ في أزله عقاباً للطّاغين.

و{ مئاباً }: مكان الأوْب وهو الرجوع، أطلق على المقر والمسكن إطلاقاً أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسماً للموضع الذي يستقر به المرء.

ونصب { مئاباً } على الحال من { جهنم } أو على أنه خبر ثان لفعل { كانت } أو على أنه بدل اشتمال من { مرصاداً } لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم.

و{ للطاغين } متعلق بــــ { مئاباً } قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله، وهذا أحسن كما علمت آنفاً. ولك أن تجعله متعلقاً بــــ { مرصاداً } أو متنازعاً فيه بين { مرصاداً } و{ مئاباً } كما علمت آنفاً.

والطغيان: تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكِبْرُ، والتعريفُ فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله: { { فتأتون أفواجاً } [النبأ: 18] فهو إظهار في مقام الإِضمار لقصد الإِيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعْرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث أنِفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله: { { إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً } [النبأ: 27، 28]. هذا وأن المسلمين المستخفّين بحقوق الله، أو المعتدين على الناس بغير حق، واحتقاراً لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.

واللابث: المقيم بالمكان. وانتصب { لابثين } على الحال من الطاغين.

وقرأه الجمهور { لابثين } على صيغة جمع لابث. وقرأه حمزة ورَوح عن يعقوب { لَبثين على صيغة جَمْع (لَبثٍ) من أمثلة المبالغة مثل حَذِر على خلاف فيه، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللّبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه.

وأحقاب: جمع حُقُب بضمتين، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة، وتقدم في قوله: { { أو أمضي حقباً } في سورة الكهف (60).

وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحُقُب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.

وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يُحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدِّين في أعمالهم.