التفاسير

< >
عرض

فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ
٢٠
فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ
٢١
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ
٢٢
فَحَشَرَ فَنَادَىٰ
٢٣
فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ
٢٤
-النازعات

التحرير والتنوير

الفاء في قوله: { فأراه الآية الكبرى } فصيحة وتفريع على محذوف يقتضيه قوله { { اذهب إلى فرعون } [النازعات: 17]. والتقدير: فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى، وذلك لأن قوله: { { إنه طغى } [النازعات: 17] يؤذن بأنه سيلاقي دعوةَ موسى بالاحتقار والإِنكار، لأن الطغيان مِظنّة ذينك، فعرض موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى: { { قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [الشعراء: 30 ـــ 32]، فتلك هي الآية الكبرى المرادة هنا.

والآية: حقيقتها العلامة والأمارة، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق، وتطلق على معجزة الرسول لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا.

وأعقب فعل { فأراه الآية الكبرى } بفعل { فكذَّب } للدلالة على شدة عناده ومكابرته حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظرَ في الدلالة، بل بادر إلى التكذيب والعصيان.

والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يُطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده.

وعطف { ثم أدبر يسعى } بــــ { ثم } للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجُمل، فأفادت { ثم } أن مضمون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإِدبار والسعي وادعاء الإِلٰهية لنفسه، أي بعد أن فكّر ملياً لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذيرَ الناس منها.

والإِدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين فإن حقيقة الإِدبار هو المشي إلى الجهة التي هي خَلْف الماشي بأن يكون متوجهاً إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها. وهو هنا مستعار للإِعراض عن دعوة الداعي مثل "قول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة لما أبى الإِيمان: ولئن أدبرتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّه" .

وأما السعي فحقيقته: شدة المشي، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناسَ بعدم الإِصغاء لكلام موسى، وجمع السحرة لمعارضة معجزته إذ حسبها سحراً كما قال تعالى: { { فتولى فرعون فجمع كيده } [طه: 60].

والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى: { فحشَر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى } فثلاثتها مرتبة على { يسعى }.

فجملة { فحشر } عطف على جملة { يسعى } لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الربُّ الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق.

ويجوز أن يكون { أدبر } على حقيقته، أي ترك ذلك المجمع بأن قام معرضاً إعلاناً بغضبه على موسى ويكون { يسعى } مستعملاً في حقيقته أيضاً، أي قام يشتدّ في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض.

والحشر: جمع الناس، وهذا الحشر هو المبيّن في قوله تعالى: { { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم } [الشعراء: 36، 37].

وحذف مفعول (حشر) لظهوره لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف.

وعطف { فنادى } بالفاء لإِفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم.

والنداء: حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب (أدعو) فنصبَت الاسم الواقع بعدها. ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم كقول الحريري في «المقامة الثلاثين» «فحِين جلس كأنه ابنُ ماءِ السماء، نادَى مُنادٍ من قِبَل الأحماء» الخ.

وحذف مفعول (نادى) كما حذف مفعول (حشر).

وإسناد الحشر والنداء إلى فرعون مجاز عقلي لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ولكن يأمر أتباعه وجنده، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به كقولهم: بنَى المنصورُ بغداد.

والقول الذي نادى به هو تذكير قومِه بمعتقدهم فيه فإنهم كانوا يعتبرون مَلك مصر إلٰهاً لأن الكهنة يخبرونهم بأنه ابن (آمون رَعْ) الذي يجعلونه إلٰهاً ومَظهَره الشمس.

وصيغة الحصر في { أنا ربكم } لردّ دعوة موسى.

وقوله: { فقال أنا ربكم الأعلى } بدل من جملة { فنادى } بدلاً مطابقاً بإعادة حرف العطف، وهو الفاء لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدَل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى: { { ومن النَّخل من طلعها قنوان دانية } وتقدم في سورة الأنعام (99).

ويجوز أن تكون جملة: { فقال أنا ربكم } عطفاً على جملة { يسعى } على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته، وليس قاصراً على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره.

فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن (أمون رَعْ) وهوالرّب الأعلى، فابنه هو القائم بوصفه، أو لأنه كان في عصر اعتقاده: أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة { الأعلى } صفة كاشفة.