التفاسير

< >
عرض

ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا
٢٧
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
٢٨
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
٢٩
-النازعات

التحرير والتنوير

انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله: { { أإنا لمردودون في الحافرة } [النازعات: 10] وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث. وإذ قد فرضوا استحالة عود الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا: { { أإنَّا لمردودون } [النازعات: 10] جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم: { أأنتم أشد خلقاً أم السماء }، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل: آالإِنسان أشدّ خلقاً، وما هم إلا من الإِنسان، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفاً بضمائر الغيبة من قوله: { { يقولون } [النازعات: 10] إلى قوله: { { فإذا هم بالساهرة } [النازعات: 14]، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.

فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم بــــ { يقولون أإنا } إلى آخره، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإِيماء إليه عند قوله: { { يقولون أَإنَّا لمردودون } [النازعات: 10].

والاستفهام تقريري، والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإِقرار بأنّ خلق السماء أعظم من خلقهم، أي مِن خلق نوعهم وهو نوع الإِنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإِنسان مرة ثانية، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدَر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى: { { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [غافر: 57]، ذلك أن نظرهم العقلي غيَّمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه مُحالاً، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة.

و{ أشد }: اسم تفضيل، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله { أم السماء }.

ومعنى { أشد } أصعب، و{ خلقاً } مصدر منتصب على التمييز لنسبة الأشدّية إليهم، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء، فالتمييز مُحوّل عن المبتدأ.

و{ السماء } يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلاً للمعقول منزل المحسوس.

ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويَبدو فيها ضوء النهار وظلمةُ الليل، فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشاهد لهم. وهذا أنسب بقوله: { وأغطَشَ ليلَها وأخرج ضحاها } لعدم احتياجه إلى التأويل.

وجملة { بناها } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان شدة خلق السماء، ويجوز أن تكون بدل اشتمال في قوله: { أم السماء }، لأنه في تقدير: أم السماء أشد خلقاً. وقد جعلت كلمة { بناها } فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن { بناها } جملة و{ أم } المعادلة لا يقع بعدها إلا اسم مفرد.

والبناء: جعل بيت أو دار من حجارة، أو آجر أو أدم، أو أثواب من نسيج الشعر، مشدودة شُققه بعضها إلى بعض بغَرز أو خياطة ومقامة على دعائم، فما كان من ذلك بأدم يسمى قُبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء.

وبناء السماء: خلقها، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع.

وجملة { رفع سمكها فسواها } مبنية لجملة { بناها } أو بدل اشتمال منها وسلك طريق الإِجمال ثم التفصيل لزيادة التصوير.

والسّمْك: بفتح السين وسكون الميم: الرَّفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سَمَكَ.

والرَّفع: جعل جسم معتلياً وهو مرادف للسمْك فتعدية فعل { رفع } إلى «السمك» للمبالغة في الرفع، أي رَفَعَ رفْعَهَا أي جَعله رفيعاً، وهو من قبيل قولهم: لَيل ألْيَل، وشِعر شاعر، وظِل ظليل.

والتسوية: التعديل وعدم التفاوت، وهي جعل الأشياء سواء، أي متماثلة وأصلها أن تتعلق بأشياء وقد تتعلق باسم شيء واحد على معنى تعديل جهاته ونواحيه ومنه قوله هنا: { فسواها }، أي عَدَّل أجزاءها وذلك بأن أتقن صنعها فلا ترى فيها تفاوتاً.

والفاء في { فسواها } للتعقيب.

وتسوية السماء حصلت مع حصول سمكها، فالتعقيب فيه مثل التعقيب في قوله: { { فنادى فقال أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 23، 24].

وجملة { وأغطش ليلها } معطوفة على جملة { بناها } وليست معطوفة على { رفع سمكها } لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء.

والإِغطاش: جعله غاطشاً، أي ظلاماً يقال: غَطَش الليل من باب ضرب، أي أظلم.

والمعنى: أنه خَصَّ الليل بالظلمة وجعله ظلاماً، أي جعل ليلها ظلاماً، وهو قريب من قوله: { رفع سمكها } من باب قولهم: ليل ألْيَل.

وإخراج الضحى: إبراز نور الضحى، وأصل الإِخراج النقل من مكان حاوٍ واستعير للإِظهار استعارة شائعة.

والضحى: بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى: { { وأن يحشر الناس ضحى } [طه: 59] يدل لذلك قوله تعالى: { { والشمس وضحاها } [الشمس: 1]، أي نورها الواضح.

وإنما جعل إظهار النور إخراجاً لأن النور طارىء بعد الظلمة، إذ الظلمة عَدَم وهو أسبق، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره.

وإضافة (ليل) و(ضحى) إلى ضمير { السماء } إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جوّ السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحلّ محلّ ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلاً حالكاً محيطاً بقسم من الكرة الأرضية.

وإن كان السماء جنساً للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها.