التفاسير

< >
عرض

وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
٣١
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا
٣٢
-النازعات

التحرير والتنوير

وانتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإِجمال القريب من التفصيل.

ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه قُدم اسم { الأرض } على فعله وفاعِله فانتصب على طريقة الاشتغال، والاشتغال يتضمن تأكيداً باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعلُ الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم.

والدَّحْو والدَّحْيُ يقال: دحَوْت ودحيت. واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو: البسط والمدّ بتسوية.

والمعنى: خلقها مدحوَّة، أي مبسوطة مسوّاة.

والإِشارة من قوله: { بعد ذلك } إلى ما يفهم من { { بناها رفع سمكها فسواها } [النازعات: 27، 28]، أي بعد خلق السماء خلق الأرض مدحوَّة.

والبعدية ظاهرها: تأخر زمان حصول الفعل، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدّي، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: { { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } في سورة البقرة (29)، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح.

ويجوز أن تكون البعدية مجازاً في نزول رتبة ما أضيف إليه { بعد } عن رتبة ما ذُكر قبله كقوله تعالى: { { عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم } [القلم: 13].

وجملة { أخرج منها ماءها ومرعاها } بدل اشتمال من جملة { دحاها } لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها.

ولا يصح جعل جملة { أخرج منها ماءها } إلى آخرها بياناً لجملة { دحاها } لاختلاف معنى الفعلين.

والمرعى: مَفْعَل من رَعَى يرعَى، وهو هنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي أخرج منها ما يُرْعَى.

والرعي: حقيقته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل.

فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإِنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب، والقرينةُ على الاكتفاء قوله بعده { { متاعاً لكم ولأنعامكم } [النازعات: 33].

وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتاً للناس وللحيوان حتى ما تُعالَج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض.

ونَصب { والجبالَ } يجوز أن يكون على طريقة نصب { والأرضَ بعد ذلك دحاها } ويجوز أن يكون عطفاً على { ماءَها ومرعاها } ويكون المعنى: وأخرج منها جبالها، فتكون (ال) عوضاً عن المضاف إليه مثل { { فإن الجنة هي المأوى } [النازعات: 41] أي مأوى من خافَ مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض.

وإرساء الجبال: إِثباتُها في الأرض، ويقال: رست السفينة، إذا شُدّت إلى الشاطىء فوقفت على الأَنْجَرِ، ويوصف الجبل بالرسوّ حقيقة كما في «الأساس»، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم:

رسَا أصلُه فوق الثرى وسمَا بهإلى النجم فَرع لا يُنال طويل

وإثبات الجبال: هو رسوخها بتغلْغُل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح، وخُلقت تتخلّلها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جُعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة.

ومن معنى إرسائها: أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة.