استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله:
{ { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [يونس: 48]. وكان سؤالهم استهزاء واستخفافاً لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقاً لحَمِي غضب الله مُرسِله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجَّل بالانتقام طيشاً وحنقاً قال تعالى:
{ { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعَجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [الكهف: 58]. فلا جرم لما قُضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال، وعرض بعقاب الذين استحقوا بها في قوله:
{ { فإذا جاءت الطامة الكبرى } [النازعات: 34]، كان ذلك مثاراً لسؤالهم أن يقولوا: هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم؟ فكان الحال مقتضياً هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجواباً عن سابق الكلام. فضمير «يسألون» عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا:
{ { أإنا لمردودون في الحافرة } [النازعات: 10]. وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره.
والساعة: هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإِضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين
{ { الطامة } [النازعات: 34] و{ الساعة }. و{ أيان مرساها } جملة مبينة للسؤال.
و{ أيّان } اسم يستفهم به عن تعيين الوقت.
والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كنايةً وهو أيضاً كناية عن الاستحالة و{ مُرساها } مصدر ميمي لفعل أرسى، والإِرساء: جعل السفينة عند الشاطىء لقصد النزول منها. واستعير الإِرساء للوقوع والحصول تشبيهاً للأمر المغيَّب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يُعرف وصولها إلا إذا رسَتْ، وعليه فــــ { أيّان } ترشيح للاستعارة، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف.
وقوله: { فيم أنت من ذكراها } واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك، وهو مضمون قوله: { إنما أنت منذر من يخشاها }. وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم، ونظيره ما روي في الصحيح
" أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له: ماذا أعْدَدْتَ لها؟" ، أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعداداً ليوم الساعة. والخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبارَ جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال.
و(ما) في قوله: { فيم } اسم استفهام بمعنى: أي شيء؟ مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم. و(في) للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة كأنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم محوطاً بذكر وقت الساعة، أي متلبساً به تلبس العالم بالمعلوم فدُل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف.
وحُذف ألف (ما) لوقوعها بعد حرف الجر مثل
{ { عَمّ يتساءلون } [النبأ: 1]. و{ فيم } خبر مقدم و{ أنت } مبتدأ، و{ مِن ذكراها } إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ. و{ مِن }: إما مّبينة للإِبهام الذي في (ما) الاستفهامية، أي في شيء هو ذكراها، أي في شيء هو أن تَذْكرها، أي لستَ متصدياً لشيء هو ذكرى الساعة، وإما صفةٌ للمبتدأ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي، أي لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله، أي ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة، وعلى الثاني: ما أنت في صلة مع ذكر الساعة، أي لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها.
وتقديم { فيم } على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإِنكار بخلاف ما لو قيل: أأنت في شيء من ذكراها؟
والذكرى: اسم مصدر الذِّكر، والمراد به هنا الذكر اللساني.
وجملة { إلى ربك منتهاها } في موقع العلة للإِنكار الذي اقتضاه قوله: { فيم أنت من ذكراها } ولذلك فصلت، وفي الكلام تقدير مضاف، والمعنى: إلى ربك عِلم منتهاها.
وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله: { إلى ربك منتهاها } لإِفادة القصر، أي لا إليك، وهذا قصر صفة على موصوف.
والمنتهى: أصله مكان انتهاء السير، ثم أطلق على المصير لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى:
{ { وأن إلى ربك المنتهى } [النجم: 42] ثم توسّع فيه فأطلق على العلم، أي لا يعلمها إلا الله، فقوله: { منتهاها } هو في المعنى على حذف مضاف، أي علم وقت حصولها كما دل عليه قوله: { أيّان مرساها }. ويجوز أن يكون { منتهاها } بمعنى بلوغ خبرها كما يقال: أنهيت إلى فلان حادثة كذا، وانتهى إليَّ نبأ كذا.
وقوله: { إنما أنت مُنذر من يخشاها } استئناف بياني ناشىء عن جملة { فِيمَ أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها } وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبي صلى الله عليه وسلم ذِكرها وأنها قريبة، فأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حظه التحذير من بَغْتَتِها، وليس حظه الإِعلام بتعيين وقتها، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها لأنهم لجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في قوله تعالى:
{ { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } [الأنعام: 50]. وأفادت { إنما } قصر المخاطب على صفة الإنذار، أي تخصيصه بحال الإِنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي، أي بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعاً على الغيب.
وقوله: { منذر من يخشاها } قرأه الجمهور بإضافة { منذر } إلى { من يخشاها }. وقرأه أبو جعفر بتنوين { منذر } على أن { من يخشاها } مفعوله.
وفي إضافة { منذر } إلى { من يخشاها } أو نصبِه به إيجازُ حذف تقديره: منذرها فينتذر من يخشاها، وقرينة ذلك حاليَّة للعلم المتواتر من القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينذر جميع الناس لا يخص قوماً دون آخرين فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا عامة. ولا يُعرف من يَخشى الساعة إلا بعد أن يؤمِن المُؤمن ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبداً لما وجهت إليه الدعوة، فتعين أن المراد: أنه لا ينتفع بالإِنذار إلا من يخشى الساعة ومن عداه تمُرّ الدعوة بسمعه فلا يَأبَهُ بها، فكان ذكر { من يخشاها } تنويهاً بشأن المؤمنين وإعلاناً لمزيتهم وتحقيراً للذين بقُوا على الكفر قال تعالى:
{ { وما أنت بمُسمِع مَن في القبور إن أنت إلا نذير } [فاطر: 22، 23]. وعلى هذا القانون يفهم لماذا وجه الخطاب بالإِيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون، وكَشف الواقعُ على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليبِ بدر مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة، ولماذا وُجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل دُعّار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصرّوا على منع الزكاة وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة المُوافاة.