التفاسير

< >
عرض

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٥٥
ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ
٥٦
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٥٧
-الأنفال

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفّار آخرين هم الذين بينّهم بقوله: { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم } الآية. وهؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم على كفرهم، ثم نقضوا عهدهم، وهم مستمرّون على الكفر، وإنّما وصَفَهم بـ{ شر الدواب } لأنّ دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة، ومعجزةَ الرسول صلى الله عليه وسلم أسطع، ولأنّ الدلالة على أحَقّية الإسلام دلالة عقلية بيّنة، فمَن يجحده فهو أشبَه بما لا عقلَ له، وقد اندرج الفريقان من الكفّار في جنس { شر الدواب }.

وتقدّم آنفا الكلام على نظير قوله: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } [الأنفال: 22] الآية.

وتعريف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنّهم شرّ الدوابّ.

والفاء في { فهم لا يؤمنون } عطفت صلة على صلة، فأفادت أنّ الجملة الثانية من الصلة، وأنّها تمام الصلة المقصودة للإيماء، أي: الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام. ولمّا كان هذا الوصف هو الذيّ جعلهم شرّ الدوابّ عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أنّ سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين، وأتى بصلة { فهم لا يؤمنون } جملة إسمية؛ لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنّهم غير مرجو منهم الإيمان.

فإنّ تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قوياً فهم بعداء عنه أشدّ الابتعاد.

وليس التقديم هنا مفيداً للتخصيص؛ لأنّ التخصيص لا أثر له في الصلة، ولأنّ الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي، أنْ لا يفيد تقديمه إلاّ التقّوي، دون التخصيص، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون } [البقرة: 272] إذ لا يراد وأنتم دُون غيركم لا تظلمون.

فقوله: { الذين عاهدت منهم } بدل من { الذين كفروا } بدلاً مطابقاً، فالذين عاهدهُم هُم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون. وتعدية { عاهدت } بـ{ مِن } للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزاماً من جانبهم، لأنّه يقال أخذت منه عهداً، أي التزاماً، فلمّا ذكر فعل المفاعلة، الدالّ على حصول الفِعل من الجانبين، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوّاً، وليست من تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّهاً إلى بعض الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، وهم الذين ينقضون عهدهم.

وعن ابن عباس، وقتادة: أنَّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع.

والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرَهم من بعض قبائل المشركين، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } [التوبة: 12] الآية. وقد نقض عبد الله بن أُبي ومَن معه عهد النصرة في أحُد، فانخزل بمَن معه وكانوا ثلث الجيش. وقد ذُكر، في أوّل سورة براءة عَهْد فرق من المشركين. وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.

والتعبير، في جانب نقضهم العهد، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر، بعد نزول هذه الآية، وأنهم لا ينتهون عنه، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم، ولذلك فُرّع عليه قوله: { فإما تثقفنهم في الحرب } إلخ. فالتقدير: ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة.

والمراد بـ{ كل مرة } كلّ مرة من المرات التي يحقّ فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرّر العهد أم لم يتكرّر، لأنّ العهد الأول يقتضي الوفاء كلّما دعَا داع إليه.

والأظهر أنّ هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر، وقبل وقعة الخندق، فالنقض الحاصل منهم حصل مرّة واحدة، وأخبر عنه بأنّه يتكرّر مرات، وإن كانت نزلت بعد الخندق، بأن امتدّ زمان نزول هذه السورة، فالنقض منهم قد حصل مرّتين، والإخبار عنه بأنّه يتكرّر مرّات هو هو، فلا جدوى في ادّعاء أنَّ الآية نزلت بعد وقعة الخندق.

وجملة: { وهم لا يتّقون } إمّا عطف على الصلة، أو على الخبر، أو في محلّ الحال من ضمير { ينقضون }. وعلى جميع الاحتمالات فهي دالّة على أنّ انتفاء التقوى عنهم صفة متمكّنة منهم، وملكة فيهم، بما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه، كما تقدّم في قوله: { فهم لا يؤمنون }.

ووقوع فعل { يتقون } في حيّز النفي يعُمّ سائر جنس الاتّقاء وهو الجنس المتعارف منه، الذي يتهمّم به أهل المروءات والمتديّنون، فيعمّ اتّقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة، ويعمّ اتّقاء العار، واتّقاء المسبّة واتّقاء سوء السمعة. فإنّ الخسيس بالعهد، والغدر، من القبائح عند جميع أهل الأحلام، وعند العرب أنفسهم، ولأنّ من عرف بنقض العهد عَدِم مَن يركن إلى عهده وحلفه، فيبقى في عُزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين، فلم يعبأوا بما يجرّه نقض العهد، من الأضرار لهم.

وإذ قد تحقّق منهم نقض العهد فيما مضى، وهو متوقّع منهم فيما يأتي، لا جرم تفرّع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم نَكالاً لغيرهم، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوّه.

وجاء الشرط بحرف (إنْ) مزيدة بعدها (ما) لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ (إن) عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد. وفي «شرح الرضي على الحاجبية»، عن بعض النحاة: لا يجيء (إمّا) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى: { فإما ترين } [مريم: 26]. وقال ابن عطية في قوله: { فإما تثقفنهم } دخلت النون مع إما: إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك: جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو.

وقلت: دخول نون التوكيد بعد (إنْ) المؤكَّدةِ بما، غالب، وليس بمطّرد، فقد قال الأعشى:

إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لناإنَّا كذلككِ ما تَحفى وننتعل

فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد.

والثقف: الظفَر بالمطلوب، أي: فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب، أي انتصرت عليهم.

والتشريدُ: التطريد والتفريق، أي: فبعِّد بهم مَن خلفهم، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير.

وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل { حُرّمت عليكم الميتة } [المائدة: 3]. وقد علم أنّ متعلّق تشريد { من خَلفهم } هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد.

والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع، ونظيره (الوراء). في قول ضمّام بن ثعلبة:

«وأنا رسول من ورائي». وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم «فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا»، والمعنى: فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل.

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم، لأنّهم استحقّوها. وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين. فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى: { ولكم في القصاص حياة } [البقرة: 179].

وضمير الغيبة في { لعلّهم يذكرون } راجع إلى { من } الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس.

والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال،، فلا يقدموا على نقض العهد، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه.