التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
٣
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٤
-عبس

التحرير والتنوير

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهامها قولُه: { { فأنت له تصدى } [عبس: 6] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى.

وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله: { { بررة } [عبس: 16]. وهو ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: "أنزلت { عبس وتولى } في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه (أي عن ابن أم مكتوم) ويُقبل على الآخر، ويقول: يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأساً فيقول: لا والدِّماء ما أرى بما تقول بأساً" ، فأنزلت: { عبس وتولى }.

ورواه الترمذي مسنداً عن عروة عن عائشة بقريب من هذا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وروى الطبري عن ابن عباس: «أن ابن أم مكتوم جاء يستقرىءُ النبي صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن ومثله عن قتادة.

وقال الواحدي وغيره: «كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبَة بن ربيعة وأبا جهل، والعباسَ بن عبد المطلب، وأبيَّ بن خلف، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يَعرض عليهم الإِسلام.

ولا خلاف في أن المراد بــــ { الأعمى } هو ابن أم مكتوم. قيل: اسمه عبد الله وقيل: اسمه عَمْرو، وهو الذي اعتمده في «الإِصابة»، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش.

وأمه عاتكة، وكنيت أمَّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم. ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتاً من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي. وهذا كما نسب عَمْرو بن المنذر ملكُ الحِيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكِل المُرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه.

ووقع في «الكشاف»: أن أم مكتوم هي أم أبيه. وقال الطيبي: إنه وهَم، وأسلم قديماً وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة.

وفيه نزلت هذه السورة وآيةُ { { غيرَ أُولي الضرر } من سورة النساء (95).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّه ويُكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذِّنَ النبي صلى الله عليه وسلم هو وبلال بن رباح.

والعُبوسُ بضم العين: تقطيب الوجه وإظهار الغضب. ويقال: رجل عَبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى: { { إنا نخاف من ربنا يوماً عَبوساً قمطريراً } [الإنسان: 10]. وعبس من باب ضرَب.

والتولي: أصله تحوّل الذات عن مَكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر.

وحذف متعلق { تولّى } لظهور أنه تولَ عن الذي مجيئه كان سبب التولي.

وعبر عن ابن أم مكتوم بـــ { الأعمى } ترقيقاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنه لما كان صاحب ضَرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره.

و{ أن جاءه الأعمى } مجرور بلام الجر محذوفٍ مع { أن } وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي { عبس وتولى } على طريقة التنازع.

والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود.

وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولَها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثاً على أن يترقب المعنيَّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب، وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجاً وذلك أهون وقعاً، ونظير هذا قوله: { { عَفا اللَّه عنك لِمَ أذِنتَ لَهم } [التوبة: 43].

قال عياض: قال عون بن عبد الله والسمرقندي: أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه ا هــــ. فكذلك توجيه العتاب إليه مسنداً إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة.

ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات.

ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث وجعل يقول للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه ويكثر النداء والإِلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن.

وجملة { وما يدريك } الخ في موضع الحال.

(وما يدريك) مركبة من (ما) الاستفهامية وفعل الدّراية المقترن بهمزة التعدية، أي ما يجعلك دارياً أي عالماً. ومثله: { ما أدراك } كقوله: { { وما أدراك ما الحاقة } [الحاقة: 3]. ومنه { { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } في سورة الأنعام (109).

والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو { { ما أدراك ما القارعة } [القارعة: 3] ونحو قوله هنا: { وما يدريك لعله يزكى }.

والمعنى أيُّ شيء يجعلك دارياً. وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل.

قال الراغب: ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده ا هــــ. قلت: فقد يُبينه تفصيلٌ مثل قوله هنا: { وما يدريك لعله يزكى } وقوله: { { وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } [القدر: 2 ـــ 3] وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو: { { وما أدراك ماهيه } [القارعة: 10] أي ما يعلمك حقيقتها وقوله: { { وما أدراك ما الحاقة } [الحاقة: 3] أي أيُّ شيء أعلمك جواب: { ما الحاقة }.

وفعل: { يدريك } معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف (لعلّ) بعده فإن (لعل) من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في «التذكرة» إلحاقاً للترجي بالاستفهام في أنه طلب. فلما علق فعل { يدريك } عن العمل صار غير متعدَ إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعدياً إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه فصار ما بعده جملة مستأنفة.

والتذكر: حصول أثر التذكير، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو مشتق من الذُّكر بضم الذال.

والمعنى: انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً، أي إذا أقبلت عليه بالإِرشاد زاد الإِيمان رسوخاً في نفسه وفَعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكيّة، فالمراد بــــ «يتزكى» تزكية زائدة على تزكية الإِيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة" إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالاً في درجات الإِيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة.

و{ يزكّى } أصله: يتزكى، قلبت التاء زاياً لتقارب مخرجيهما قصداً ليتأتى الإِدغام وكذلك فُعِل في { يذّكر } من الإِدغام.

والتزكّي: مطاوع زكَّاه، أي يحصل أثر التزكية في نفسه. وتقدم في سورة النازعات.

وجملة { أو يذَّكَّر } عطف على { يزَّكَّى }، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإِرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لِما كان في غفلة عنه.

والذكرى: اسم مصدر التذكير.

وفي قوله تعالى: { فتنفعه الذكرى } اكتفاء عن أن يقول: فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.

والذكرى: هو القرآن لأنّه يذكّر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى: { { وما هو إلا ذكر للعالمين } [القلم: 52] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.

وقرأ الجمهور: { فتنفعُه } بالرفع عطفاً على «يذّكّر». وقرأه عاصم بالنصب في جواب: { لعله يزَّكَّى }.